سبق أن بينت في المشهدين السابقين من اللقاء أنني ، وفي سياق حلقات برنامجي التلفزيوني العرب والموسيقى ، خصصت حلقة للتوقف عند العلاقة بين الموسيقى والألوان.كان ذلك في عام 1988!
عرضت أولاً رؤية والت ديزني في فيلم ” فانتازيا ” لهذه العلاقة ، والتي ربط فيها بين الأصوات الحادة واللون الأحمر الحار ، و بين الأصوات العريضة واللون الأزرق البارد ، وفق مصطلحات الرسامين ، ثم رغبتي في القيام بمغامرة أمام الكاميرا ، تجسد تلك العلاقة في أبعاد أخرى.
شرحتُ كيف ناقشت تلك الفكرة مع التشكيلي الكبير الصديق فاتح المدرس ، أستاذ الدراسات اللونية في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق ، والعازف على آلة البيانو ، والمستمع المتابع للموسيقى في شتى صورها ، و كيف أنني ، و في زيارة لمرسمه ، تحدثت عن فيلم والت ديزني ، وسألته عن رأيه في العلاقة بين الموسيقى والألوان ، و هل هي علاقة آلية ، كما طرح والت ديزني ، أم أنها تمر عبر الدماغ الإنساني ، وتفاعلاته الذاتية ، والعواطف ومتغيراتها ، بين مرسل ومستقبِل ، أو بين مستقبلٍ وآخر!
قال بأنه لا يوافق على تلك العلاقة الآلية ، وأن اللون الأزرق يمكن أن يكون حاراً ، وأن لكل لون شخصيته المستقلة ، وأن حرارة الألوان تتعلق بالعلاقة التي ينسجها الرسام بين شخصياتها المتناقضة ..
فكان أن طرحت عليه تجسيد هذه الفكرة أمام الكاميرا مباشرة ، وبدلاً من أن يعزف ثم يرسم ، كما تعود في مرسمه ، فليستمع إلى ارتجالات مني على القانون ، يسمعها لأول مرة .. ثم يرسم..
كنت أدرك أن هذه مغامرة .. فكأنك تطلب من شاعر أن يرتجل قصيدة أمام الكاميرا ، حسبما يتأثر من سماعه لموسيقى يسمعها لأول مرة ، وبالنسبة لفاتح المدرس ، فلاشك بأنها مغامرة ، فماذا إن لم تحرض الموسيقى عنده أي مشاعر أو صور ، ناهيك عن أنه مطبوع بالتغيير ، وقد اعتاد عندما يرسم ، فإنه يشكل هيكل اللوحة الهندسي أولاً ، ثم يعمل على الألوان ، وتضادها ، ولكنه كثيراً ما يغير الألوان ، إلى أن تستقر اللوحة ، وهذه أيضاً مشكلة إضافية!
لم يتردد فاتح المدرس في القبول ، فهو الجريء الواثق بنفسه ، والواثق بي ، إذ جمعتنا صداقة طويلة.. فجرى نقل مرسمه إلى استوديو التلفزيون العربي السوري ، وهكذا جاء هذا المشهد الثالث من اللقاء!
في هذا المشهد أطلقت ارتجالاً على آلة القانون ، وعلى مقام النهاوند ، لأنه قريب مما يألفه في عزفه هو ، وارتجالاته على آلة البيانو!
استمعَ .. ثم بدأ يجسد ما حرضته فيه تلك الموسيقى!