احتفاءً بذكرى رحيل شاعرنا الكبير نزار قباني ، ونظراً إلى أنني درجت في هكذا مناسبة على التركيز على بدايات المحتفى بذكراه ، فإنني أذكِّر اليوم ببدايات نزار قباني في عالم الغناء ، ابتداءً من قصيدة : كيف كان؟ في عام 1953 ، وصولاً إلى قصيدة أيظن؟ بعد سبعة أعوام ، وهي القصيدة التي أدخلت شعره عالم الغناء العربي من أوسع أبوابه ، فأشير إلى الطريقة التي وصل عبرها نص هذه القصيدة إلى نجاة ، ثم عبد الوهاب ، عبر شقيق نزار : الدكتور صباح قباني ، لأتوقف بالتحليل عندها، مستذكراً أولاً تحليلي لها في سياق برنامج عبد الوهاب مرآة عصره ، ثم مستقرئاً خفاياها في تحليل تفصيلي لاحق ، لم يكن يسمح به الوقت المتاح في إطار برنامج تلفزيوني.
رصد لما غُنِّيَ من شعر نزار قبل قصيدة أيظن!
في عام 1953 ، كانت إذاعة دمشق ، كما نعلم ، تسعى لكي تحتل مكانة مرموقة على الساحة العربية ، بإدارة مديرها اللامع أحمد عسة و مؤازرة الأمير يحيى الشهابي والدكتور صباح قباني والأستاذ مروان شاهين وغيرهم..
في ذلك العام ، زار دمشق بدعوة من الإذاعة ، الملحن والمطرب المصري أحمد عبد القادر. كان أحمد عبد القادر معروفاً ، إذ كانت نجحت له أغنيات كثيرة منها أغنية وحوي يا وحوي الرمضانية ، من ألحان محمود الشريف ، و أغنيتين عن الحج من ألحان رياض السنباطي هما قيام الحجاج وعودة الحجاج ، وله أيضاً لحن شائع هو أغنية جميل وأسمر لمحمد قنديل ..
اختار أحمد عبد القادر من ديوان نزار قباني ” أنت لي” الصادر عام 1950 أبياتاً من قصيدة ” كيف كان ” ، وكان نزار في تلك الفترة سفيراً لسورية في لندن. لحن أحمد القصيدة على مقام الحجاز كار كرد ، وسجلها لصالح إذاعة دمشق ، فكان التسجيل الذي أذيع لأول مرة في 25 كانون الثاني/ يناير 1953 ، ناقلاً إلى الجمهور أول قصيدة لُحنت لشاعرنا الكبير نزار قباني ، وأدخلت شعره عالم الغناء ، قبل أن تلحقها قصيدة ” لماذا تخليت عني ” في عام 1955 ، تلحين خالد أبو النصر ، و أداء زكية حمدان ، ثم قصيدة ” وشاية ” من ألحان الأخوين رحباني وأداء السيدة فيروز عام 1956 ، فقصيدة ” بيت الحبيبة ” من ألحان وأداء نجيب السراج في عام 1958 ، وصولاً إلى قصيدة ” أيظن ” في عام 1960 ، من ألحان محمد عبد الوهاب ، وأداء نجاة الصغيرة ، وهي القصيدة التي سلطت الأضواء بكثافة على شعر نزار..
قصيدة أيظن؟
أول قصيدة لنزار قباني يلحنها محمد عبد الوهاب وتغنيها نجاة الصغيرة ، تبعتها بعد ذلك قصائد أخرى هي : ماذا أقول له (1965) ، وإلى حبيبي // إرجع إليَّ (1972) ، وأسألك الرحيلا (1991) .
تعد قصيدة ” أيظن فاتحة مسار الأغاني القصصية خارج إطار السينما لدى عبد الوهاب ، حيث لم تعد الأغاني القصصية بحاجة إلى أن تكون في سياق فيلم لتعبر عن قصته ، بل أصبحت لها قصتها الخاصة ، التي تتضمن المقدمة والحبكة الدرامية والنتيجة. جاء ذلك بعد إرهاصات أولى ظهرت أول ما ظهرت في مونولوج ” مريت على بيت الحبايب ” في عام 1932 ، دون أن تصل حينها إلى القصة الكاملة .
حصلت الأغنية على جائزة أفضل أغنية عربية في مهرجان الأغنية العربية الذي أقامه في لبنان سنة 1961 سعيد فريحة صاحب مؤسسة الأنوار ، و نظراً لنجاحها فقد اختُلف في المناسبة التي ولّدتها ، إذ عزا محبو عبد الوهاب الفضل إليه في اختيارها ، وتلحينها ، واختيار نجاة الصغيرة لأدائها ، لأنها تلائم طابع غناء نجاة المتسم بالشفافية والإحساس المرهف ، الذي يلائم مضمون القصيدة ، إذ يعبر نصها عن فتاة عاشقة تقرر التخلي عن حبها ثم لا تقوى على ذلك.
لماذا اختار الشاعر نزار قباني نجاة لتغنيها ؟ ولماذا اختارها عبد الوهاب ليلحنها؟
بدأت مسيرة هذه القصيدة ، عندما أرسل الشاعر نزار قباني نص القصيدة إلى نجاة ، مقترحاً عليها أن تغنيها. هناك رواية أخرى ، وهي الأصح في رأيي ، تشير إلى أن مرسل القصيدة لم يكن نزار قباني ، بل شقيقه الدكتور صباح قباني ، الذي كان مدير التلفزيون السوري ، إبان فترة الوحدة بين مصر وسورية ، وكان على صلة وطيدة مع نجاة. هذه الرواية الثانية أكدها لي الأستاذ مروان شاهين ، المذيع في إذاعة دمشق في تلك الفترة ، و صديق الدكتور صباح . في حال صدقت الرواية الثانية ، فمن المحتمل أن نجاة لم ترغب في أن تشير إلى الدكتور صباح ، فأشارت إلى شقيقه نزار.
كان نزار قباني في تلك الفترة دبلوماسياً ، يشغل الموقع الثاني في سفارة الجمهورية العربية المتحدة في الصين ، وكانت قصائده قد انتشرت بشكل سريع ، خاصة لدى الشرائح العربية الشابة.
على كل حال ، و سواء أكان المرسل أحد الشقيقين ، فلاشك بأن اختيار نجاة لكي ترسل إليها القصيدة ، يحمل رسالة ما .. وأنا أرى أن تلك الرسالة تشي بقناعة نزار أن صوت نجاة هو الأكثر ملاءمة لشعره ، في تجسيده للمرأة الحنونة الدافئة ، التي تجمع متناقضين : قابلية الخروج على تقاليد المجتمع ، و تجسيد طموحات المرأة في تحقيق مكانة مستقلة لها ، وقابلية الانكسار أمام الرجل الذي تحب ، أي أمامه هو!.. وهذا رأيٌ سبق لي أن قلته أمام نزار مباشرة ، في لقاء تلفزيوني . في ذلك اللقاء توقف نزار عند هذا الرأي ، نافياً أن تكون هذه نظرته إلى المرأة ، مركزاً على القابلية الأولى : الخروج على تقاليد المجتمع ، دون أن يؤثر نفيُه على رأيي ، المستند إلى أدلة ملموسة.
مع عبد الوهاب
عرضت نجاة القصيدة على الأستاذ كمال الطويل ، ثم على الأستاذ محمد الموجي ، فاعتذرا . فرأت أن ترسل القصيدة للنشر في صحيفة الأخبار ، لكي تُظهر أنها اهتمت بها ، وبعد نشرها ، فوجئت بالأستاذ محمد عبد الوهاب يتصل بها ، ويعلمها أنه أعجب بالقصيدة ، وأنه انتهى من تلحينها ، دون أن يعدل فيها أي كلمة! ذهبت إليه واستمعت إلى اللحن ، واتفقا على تقديمه.
المهم هنا أن الأستاذ عبد الوهاب ، القادر على التقاط أي فرصة عابرة ، انتبه إلى ثلاثة عناصر أساسية في هذه القصيدة ، شكلت معاً فرصة حقيقية : القصيدة ، بمعانيها غير المسبوقة في الغناء العربي ، إذ تروي قصة فتاة عاشقة ، تصرح بحبها ، و تقرر التخلي عنه ، ثم لا تقوى على ذلك ، وكذلك المفردات الجديدة التي وردت في سياقها ، من جهة ، و كذلك الأبعاد السياسية التي تحملها ، من جهة أخرى ، إذ أن ناظمها شاعر ودبلوماسي سوري ، إبّان الوحدة بين سورية ومصر ، ما يجعل تقديم القصيدة غناءاً ، يجسد هذه الوحدة ، فنياً هذه المرة ، ولاشك في أن أهمية هذا البعد عند عبد الوهاب ازدادت ، عندما علم بأن نجاة ، ذات الأصول السورية ، هي التي أرسلت القصيدة للنشر. أما العنصر الثالث فسأشير إليه في نهاية هذا النص.
تجدر الإشارة إلى أن الأستاذ عبد الوهاب كان يعرف نزار قباني وشعره ، إذ سبق لهما أن اجتمعا مراراً في بيروت ، بل إن عبد الوهاب سبق له أن حضر ولادة لحن لقصيدةٍ لنزار ، غنتها زكية حمدان ، منتصف الخمسينات، ولهذا حديث آخر . ولاشك في أن أسلوب نزار الشعري ومضامينه غير المسبوقة لفتت نظر عبد الوهاب منذ ذلك التاريخ.
الإنتاج
كان الأستاذ محمد فوزي ، الملحن والنجم السينمائي المعروف ، قد أسس في شهر نيسان / أبريل 1959، أول شركة لتسجيل الاسطوانات “مصرفون”، فيما أسس عبد الوهاب شركة صوت الفن عام 1960 .
كانت نجاة في تلك الفترة ترتبط مع شركة مصرفون لإنتاج الأسطوانات ، بعقد احتكار ، وكان عبد الوهاب يعرف أن الأمر يتطلب الحصول على موافقة محمد فوزي ، لكي تتمكن من أن تغني من ألحانه ، التي تحتكرها شركة صوت الفن بدورها . وافق الأستاذ محمد فوزي ، وصدرت الأغنية من إنتاج شركة صوت الفن.
تحليل قصيدة أيظن كما ورد في برنامج عبد الوهاب مرآة عصره
تحليل تفصيلي!
أتوقف الآن عند القصيدة بالتحليل التفصيلي ، لإبراز مكامن الإبداع فيها ، كما ألَّفها نزار قباني ، و لحنها عبد الوهاب و كما أبدعت نجاة في أدائها ، مجسدةً المرأة الحنونة الدافئة ، التي تجمع متناقضين أرادهما نزار للمرأة : قابلية الخروج على تقاليد المجتمع ، وقابلية الانكسار أمام الرجل الذي تحب .. أي أمام الشاعر ، في عنفوانه!
من المفيد أيضاً أن أشير إلى أنني كتبتُ : ألَّفها نزار قباني ، ولم أقل : كلمات نزار قباني ، وأنا هنا لا أخترع جديداً ، إذ ورد في صورة الأسطوانة الواردة في الفيديو: أيظن ، تأليف : نزار قباني ، وتلحين محمد عبد الوهاب ، وهذا مفتاح هام ، شكل عند عبد الوهاب عنصراً ثالثاً من عناصر نجاح القصيدة ، سأتوقف عنده أيضاً ، لشرح ما كان يقصده عبد الوهاب!
أنشر الآن الفيديو التالي ، الذي يجمع صوراً تروي مسيرة هذه القصيدة ، مع المقدمة الموسيقية المبدعة ، التي عبَّر بها عبد الوهاب عن مضامينها ، في أسلوب غير مسبوق ، على الأقل في ثوانيها الأولى!
المقدمة الموسيقية
نتابع في الفيديو المرفق أدناه ، المقدمة الوسيقية المبدعة ، وأود هنا أن أشير إلى أهمية الثواني الأولى من المقدمة الموسيقية ، التي حملت الكثير من عناصر الحداثة في التعبير الموسيقي ، عندما استندت إلى جملة موسيقية خرجت عن أي سياقٍ لحني شرقي ، مما هو متداول في الموسيقى العربية ، إذ تشكلت من درجات صوتية مستقلة لا يربط بينها أي رابط لحني ، بل تتخللها قفزات صوتية متباعدة ، في دفق متلاحق رسم فضاءاً موسيقياً غريباً ، عبر بأمانة ، عن الحيرة التي تغلب على جو القصيدة في بدايتها!
تختتم الفرقة الموسيقية هذا الدفق من الأصوات الموسيقية ، بتوقف على درجة صوتية لا تمت إلى درجة استقرار المقام بصلة ، لتبدأ آلة القانون في أداء لحنين متتاليين ، الأول : يواكب حالة التردد والرفض الأولى ، إذ يأتي في منطقتين صوتيتين مختلفتين ، وكأنه حوار بين العقل والعاطفة ، تختلط فيه النقرات مترابطة لحنياً في منطقة الأصوات الحادة ، تعبر عن العاطفة ، مع نقرات متعارضة ، في منطقة الأصوات المنخفضة تعبر عن رفض العقل لهذا التحول العاطفي ، بسبب اعتبار الشاعر أنها لعبة في يديه ، دون أن يكون بين النقرات القوية والضعيفة أي رابط لحني ، لإبراز تعارضها ، إلى أن تدخل آلة القانون ، في أداء اللحن الثاني ، الذي يعبر عن التحول نحو انسجام أفكارها وعواطفها ، من خلال النقر المتناوب ( الرش ) بين يدي عازف القانون ، لأداء اللحن الثاني ذاته ، لتدخل الفرقة الموسيقية أخيراً في لحن انسيابي ، يناقض ما أدته الفرقة في البداية ، و يصور عودتها إليه.. دون أن يتوقف على درجة استقرار مقام النهوند لتبقى الأمور معلقة قبل البدء بالغناء .. وهو اللحن ذاته الذي يأتي في ختام القصيدة ، بعد أن تقرر العودة ، ما يبين البعد التخطيطي عند عبد الوهاب ، في بناء اللحن من بدايته حتى نهايته ، ودون أن يستقر اللحن على درجة استقرار المقام ، حيث استقر الغناء ، عند : ما أحلى الرجوع إليه ، وكأنه يترك الأمور مفتوحة على فراق قادم!
التحليل التالي مستند إلى تسجيل القصيدة الأصلي المنشور أدناه ، فيما أنشر في نهاية المقال تسجيلاً أحدث للقصيدة.
أيظن أني لعبة بيديه
أنا لا أفكر بالرجوع إليه
اليوم عاد كأن شيئاً لم يكن
وبراءة الأطفال في عينيه
ليقول لي إني رفيقة دربه
وبأنني الحب الوحيد لديه
حمل الزهور إليّ كيف أردّه
وصبايا مرسومٌ على شفتيه
ما عدت أذكر والحرائق في دمي
كيف إلتجأت إلي زنديه
خبأت رأسي عنده كأنني
طفل أعادوه إلى أبويه
حتى فساتيني التي أهملتها
فَرِحت به.. رقصت على قدميه
سامحته وسألت عن أخباره
وبكيت ساعات على كتفيه
وبدون أن أدري تركت له يدي
لتنام كالعصفور بين يديه
ونسيت حقدي كله في لحظة
من قال إني قد حقدت عليه
كم قلت إني غير عائدة له
ورجعت ما أحلى الرجوع إليه
الأغنية
جاء لحن عبد الوهاب للقسم المغنّى جديداً كل الجدة ، وخاصة في مجال توظيف المقامات الموسيقية ، للتعبير عن تضارب العواطف في القصيدة ، إذ أتى النص موزعاً بين عاطفتين مختلفتي : القسم الأول رفض العودة إلى الحبيب، فيما تُختتم القصيدة بالعودة إليه.
الأستاذ عبد الوهاب الذي يُمحّص في كل كلمة يُلحنها ، قرر أن يعبر عن هذا ، في الإجمال ، بتغير المقامات الموسيقية ودرجات استقرارها ، إذ تلون اللحن عموماً بين مقامي النهوند على درجة اللا ، والكرد على درجة المي ، في فترات التفكير والتناقض ، فتلون اللحن بين هذين المقامين ، مع تغيير درجتي الاستقرار، للتعبير عن تلون العواطف في القصيدة ، معتمداً أيضاً على التعبير الداخلي على مستوى الجو العام للمشاهد وحتى على مستوى المفردة الواحدة. أما مقام البيات فقد خُصص للّحظات الفرحة.
استخدم الأستاذ عبد الوهاب مقام النهوند ، وهو مقام جميل جذاب رومانسي شاعري ، يُعبّر عن جو هذه القصيدة ، واختار أن يدور اللحن حول درجة استقراره ، دون أن يتوقف عندها ، وقد عبّر بذلك عن فعلاً هذه الحيرة والقلق ، لأن هذا القرار في عدم العودة لن يكن قراراً مطلقاً، ولذلك فهو يحرض في أذهاننا عدم الراحة ، من خلال الدوران حول درجة استقرار المقام ، دون أن يلامسها ، بينما عندما ستأتي النهاية ، عند : ما أحلى الرجوع إليه، سيستقر اللحن أخيراً عند درجة استقرار مقام النهاوند ، في آخر درجة صوتية في اللحن بكامله!
الأستاذ عبد الوهاب عندما تعامل مع هذه القصيدة ، عمّق أسلوب تلحين الجمل اللحنية حسب طول المعنى المغنى ، و ليس حسب طول شطرة من البيت ، أو البيت الشعري، فمثلاً عندما تقول القصيدة : وبدون أن أدري تركت له يدي لتنام كالعصفور بين يديه ، تقطعت الجمل اللحنية على المعاني تماماً ، وليس على إيقاع البيت الشعري، وحتى جملة : ما أحلى الرجوع إليه ، التي ترددها نجاة الصغيرة عدّة مرات في نهاية القصيدة، فإنها في الأصل عبارة عن جزء من الشطرة الأخيرة من البيت الأخير، ومع ذلك تُكرَر الجملة اللحنية. فعلاً الأستاذ عبد الوهاب اقترب تماماً من أسلوب تلحين اللفظة المعاصرة.
التعبير اللحني على مستوى المفردات / يفضل متابعة التحليل مع نسخة التسجيل الأصلي أعلاه/:
المشهد الأول:
أيظن أني لعبة بيديه
أنا لا أفكر بالرجوع إليه
اليوم عاد كأن شيئاً لم يكن
وبراءة الأطفال في عينيه
ليقول لي إني رفيقة دربه
وبأنني الحب الوحيد لديه
أيظن : تصاعد معبر عن السؤال – أني لعبة بيديه : توقف معبر عن الرفض عند : بيديه – أنا لا أفكر : تغيير مقامي عابر عند لا أفكر ، وأداء نجاة يعبر تماماً عن التردد في التوقف المتردد عند : في الرجوع إليه – تكرار كلمة أيظن بلحنها عدة مرات ، وبأسلوب الأداء الذي لا يعبر عن ثورة حقيقيه ، يبين وجود رفض داخلي عاطفي لموقفها ، و يبرز حيرتها في أسلوب التعامل معه – اليوم عاد : تكرار كلمة عاد يوحي بارتياحها لتلك اللحظة ، واللحن في امتداده يعبر ارتياحها لتلك اللحظة! جملة : ليقول لي إني رفيقة دربه تأتي في لحنين : الأول له إيقاعية استهزائية ، فكيف يقول لها أنها رفيقة دربه وقد فعل ما فعل ، ليأتي اللحن الثاني الحافل بالامتدادات المعبرة عن ارتياحها لهذه المقولة – تصاعد لحني عند قوله بأنها الحب الوحيد لديه ، التي تكررها لتقنع نفسها بصدقه ، مع ختام على درجة استقرار مقام النهاوند لأول مرة على طول هذا المشهد ، في تعبير عن ارتياحها الكامل لفكرة أنها الحب الوحيد لديه.
المشهد الثاني:
حمل الزهور إليّ كيف أردّه
وصبايا مرسومٌ على شفتيه
ما عدت أذكر والحرائق في دمي
كيف إلتجأت إلي زنديه
خبأت رأسي عنده كأنني
طفل أعادوه إلى أبويه
في هذا المشهد : حمل الزهور إليَّ ، تأتي المقدمة الموسيقية حيوية تماماً ، و يمكن التوقف عند دور القانون فيها ، وقد أسند إليه الأستاذ عبد الوهاب دور إبراز الانسجام بين العاطفتين المتناقضتين ، في المقدمة الموسيقية ، كما رأينا ، ليصبح رمز التفاهم والتقارب!
جاء لحن حمل الزهور في تصاعد لحني عند حمل للتعبير عن حركة الرفع – كيف أرده : لحن تعبيري هام ، إذ يعبر عن محاولات تبرير الموقف الجديد ، ليأتي لحن : وصبايَ مرسوم على شفتيه ، متفاعلاً مع اللحن الأول ، نظراً لاستمرار فكرة التبرير ، فيما تتكرر الجملة اللحنية مراراً ، لأن هذه اللحظة تجسد ذروة التفكير ، التي تمهد لقرار العودة ، ولتأكيد هذه اللحظة ، نرى أن اللحن يستمر مع تفاعلات طفيفة ، عند : ما عدت أذكر ، خبأت رأسي ، وكأني طفل .. يجدر التوقف عند الجملة اللحنية عند : ماعدت أذكر ، إذ عبر عبد الوهاب عن تشوش الذاكرة ، في تخافض لحني على أنصاف الأبعاد الموسيقية ، يسمى الكروماتيك ، و يعبر عن تشوش الذاكرة! كما يمكن التوقف لحن رأسي المتخافض للتعبير عن حركة الرأس وهو ينحني للاختباء عنده ، وكذلك عند أداء نجاة الهامس لكلمة : طفل ، المعبر تماماً عن نظرتها لنفسها أمام الشاعر!
المشهد الثالث
حتى فساتيني التي أهملتها
فَرِحت به.. رقصت على قدميه
سامحته وسألت عن أخباره
وبكيت ساعات على كتفيه
يتحول اللحن المرسل على طول المشاهد السابقة ، إلى لحن موقَّع على مقام البيات عند : حتى فساتيني اللتي أهملتها ، ويمكن التوقف عند لحن: رقصت المتمايل الذي يحدد استقرار العواطف ، واللوازم الموسيقية المتأرجحة التي تواكب رقص الفساتين ولكنها لا تزال تتأرجح بانتظار ما سيقرره العقل ، فالبكاء والمسامحة أفعال تسيطر فيها العاطفة!
المشهد الرابع
وبدون أن أدري تركت له يدي
لتنام كالعصفور بين يديه
ونسيت حقدي كله في لحظة
من قال إني قد حقدت عليه
كم قلت إني غير عائدة له
ورجعت ما أحلى الرجوع إليه
يتوقف اللحن للتمهيد إلى أول فعل يقوم به العقل هذه المرة : وبدون أن أدري ( تركت له يدي ) ما يؤذن بقبول العقل ، لما قادته إليه العاطفة ، التي تجيش مع التحول إلى مقام الحجاز العاطفي ، عند : بين يديه مع تلوين لاحق على مقام النواأثر ، ، ليأتي التبرير : لونسيت حقدي كله في لحظة.. ولكن المونولوج الداخلي يستمر .. كم قلت إني غير عائدة له ، مع تكرار كلمة له ، التي تلاحقها نقرات القانون المعبرة عن الدعوة للتفاهم ، والتي أصبحت تجسد بشكل ما شخصية الحبيب العائد ، ليمتد اللحن عند : ورجعت .. وتكرار الأداء لتؤكد تشكل القناعة من جهة ، مع تساؤل مازال ملحاً .. حول مدى صوابية هذا القرار ، حتى الوصول إلى لحن : ما أحلى الرجوع إليه الفَرِح ، حيث تستقر نهائياً عند فكرة العودة ، فيتم تكرار : إليه إليه .. ما أحلى الرجوع إليه ، في ختام أخير يستقر أخيراً على درجة استقرار مقام النهاوند .. بعد طول غياب!
نجحت القصيدة رغم أنها في أغلبها مرسلة ودون إيقاع ، كما نجحت نجاة ، بأدائها الرائع ، الهامس ، المعبر ، عن الفتاة الحنونة الدافئة ، التي تجمع متناقضين ، أرادهما نزار للمرأة دائماً : قابلية الخروج على تقاليد المجتمع ، وقابلية الانكسار أمام الرجل الذي تحب .. أي أمام الشاعر ، في عنفوانه!
العلاقة الفنية بين عبد الوهاب ونجاة .. ونزار
كانت العلاقة الفنية التي ربطت الأستاذ عبد الوهاب بالمطربة نجاة الصغيرة متميزة فعلاً ،إذ كانت أول مطربة يسمح لها أن تغني إحدى أغانيه ، وهي أغنية كل ده كان ليه ، التي كان الأستاذ عبد الوهاب قد قدمها عام 1954 ، ثم أعطاها للمطربة نجاة الصغيرة. وهناك نقطة أهم ، إذ أن الأستاذ عبد الوهاب يقسم المراحل الفنية في مسيرته إلى مراحل ويقول إن أغنية أيظن تجسد إحداها ، سواء من حيث أسلوب التلحين المعتمد تماماً على التعبير عن المعاني ، أو في كون هذه القصيدة فاتحة مسار الأغاني القصصية خارج إطار السينما لدى عبد الوهاب ، حيث لم تعد الأغاني القصصية بحاجة إلى أن تكون في سياق فيلم لتعبر عن قصته ، بل أصبحت لها قصتها الخاصة ، ومن هنا فقد كُتب على غلاف الأسطوانة : تأليف نزار قباني ، إذ أنها لم تعد قصيدة فقط ، بل أصبحت قصة حقيقية ، لها مقدمة ، وحبكة درامية ، وذروة .. ونتيجة!
يمكن القول أيضاً بأن قصيدة أيظن ، جسدت أول مرحلة من مراحل فن الأستاذ عبد الوهاب ، يرى فيها أنها تشكلت ، بصوت ليس صوته.
بالمقابل ، كان آخر لحن نشره الأستاذ عبد الوهاب في حياته ، وهو لحن أسألك الرحيل من نظم نزار ، أيضاً ، و نقله إلينا عبر صوت نجاة الصغيرة ، بعد قصيدتي : ماذا أقول له (1965) ، وإلى حبيبي // إرجع إليَّ (1972). ألا يدلنا هذا على مكانة متميزة ، للسيدة أو المطربة نجاة ، ولنزار .. عند الأستاذ عبد الوهاب؟