يختزن الإنسان صوراً كثيرة في ذاكرته ، تلخص مسيرة الحياة. من أهم تلك الصور ، ما رافق أحداثاً تحصل لأول مرة ، و ما سجل من مفاصل للحياة ، كان لها تأثير عميق في المستقبل!
عاصرتُ في حياتي صوراً كثيرة من هذا النوع ، نظراً لتعدد المجالات التي واجهتها ، ومنها مسيرتي التلفزيونية الطويلة. بين تلك الصور التي سجلت تلك المسيرة ، تبرز صورة أولى ، سجلت أولَ دخول لي إلى مبنى التلفزيون العربي السوري ، في دمشق ، منذ حوالي خمسين عاماً .. كنتُ شاباً يافعاً .. صحيح ، ولكنني كنت خبرتُ مواجهة الجمهور ، منذ أن كنت في سن الرابعة من عمري. ومع ذلك فقد كنتُ أمام حالة جديدة تماماً ، تثير الرهبة .. الجمهور غائبٌ .. ولكنه موجود! .. مختبئٌ في كاميرات تحيط بك ، وخلفها مصورون .. تراها بوضوح ، أولاً ، ثم سرعان ما تغرق في ضباب الأضواء المسلطة عليك ، التي تعلن أن الجميع جاهز ، لنقل صورتك الأولى .. للناس!
في مسيرتي التلفزيونية أخرج أعمالي عدد من المخرجين .. فواز عبدلكي ، حكمت الصبان ، رياض رعد ، هيثم هوانا .. وصور لقائي الأول بكل منهم لا تزال حاضرة في الذاكرة ، ولكن الصورة الأولى التي سجلت أول ظهور لي على شاشة التلفزيون ، وحفظتها الذاكرة ، تبقى صورة ذلك الشاب ، الذي أتى إليَّ ، وأنا ضائع في الاستوديو الكبير ، يسأل عما سأقدمه للناس .. شابٌ خلوقٌ لطيفٌ هادئ ، نظرته فيها ذكاء وحماس ، وذهنه متفتح لمعرفة التفاصيل! ..
تعجبتُ كيف يثير شاب يافع ، قادم من حلب ، إلى التلفزيون في دمشق ، لأول مرة ، هذا الاهتمام بالتفاصيل .. شرحتُ له ، وقد بدأت أستعيد نفسي .. أنني سأسجل ، على آلة القانون ، عدة تسجيلات ، يندرج كلٌّ منها في مسار .. مسارات تقليدية ، يغلب عليها الطرب ، ومسارات تعبيرية ، ومسارات تجديدية! فالعازف لا تكتمل قدراته ، إلا إن استطاع أن يدلي بدلوه ، في هذه المساراتِ ، كلِّها .. وأنني سأبدأ بعرض أسلوبٍ جديد ، لم يسبق أن قُدِّم َفي العالم العربي حتى ذلك الوقت ، وهو العزف متعدد الأصابع .. استفسر و تمعَّن .. ثم قال: على بركة الله ..
عندما تابعت التسجيل لاحقاً .. أدركتُ لِمَ استفسر وتمعن .. لقد حاول ، في تعامله مع الصورة ، أن يبرز هذا التميز ، في أسلوب يقدم لأول مرة! وهو ما سنلحظه عندما نتابع التسجيل.. ومن بدايته!
وفيما بعد .. وكلما التقيتُه في ممرات التلفزيون ، أو في مناسبات فنية أو اجتماعية أو رسمية .. ورغم المواقع التي شغلتُها في مجالات أخرى .. فقد كنتُ أستعيد شعور الرهبة الذي رافقني قبيل التصوير ، و شعور الثقة الذي استعدتُه ، بسبب الطاقة الإيجابية التي ولَّدها حضورُه .. واهتمامُه ..
كان ذلك الشاب ، الخلوقُ اللطيفُ الهادئ ، الذي نظرتُه فيها ذكاء وحماس ، و الذي ذهنه متفتحٌ لمعرفة التفاصيل ، هو المخرج رياض ديار بكرلي ، الذي رحل عن دنيانا منذ أيام .. رحمه الله ، و صبّر رفيقة عمره ، السيدة المخرجة رويدا الجراح .. أما أنا فستبقى تلك الصورة حاضرةً .. ما بقيتُ!