تعودت منذ زمن بعيد أن أعمل على مواضيع متعددة في آن واحد.. وهكذا كنت أقدم البرامج التلفزيونية عن الموسيقى العربية ، أو عن تقنيات الحاسوب ، وأدرِّس في كلية الهندسة المدنية ، وأدير مكتبي الهندسي ، وأنفذ مفاضلة القبول للجامعات السورية على الحاسوب ، في آن واحد ، مستفيداً من تداخل تلك الفضاءات ، لتشكيل رؤى جديدة في كل مجال!
وفي هذا المنحى ، فإنني أخصص جل وقتي الآن لمشروعين : مشروع التأسيس لنهضة موسيقية عربية جديدة بمساراته المتعددة ، وموسوعة كتاب الأغاني الثاني ، التي أسعى أثناء كتابتها للإحاطة والمقارنة ، في آن واحد ، بين مختلف الحقب الزمنية التي عاشتها الموسيقى العربية!
وفي هذا السياق ، فإنني أُخضع كتاب الأغاني للأصفهاني حالياً لقراءة مختلفة ، تخرج عن الإطار الأدبي الذي دُرس فيه الكتاب ، إلى إطار موسيقي ندر أن وضع في دائرة الضوء!
خبر عابر في ثنايا كتاب الأغاني يكشف عناصر و يثير أسئلة كثيرة!
يأتي هنا الخبر التالي الذي أورده كتاب الأغاني في جزئه الثامن عشر:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبيه قال: صنعتُ لحناً فأعجبني ، وجعلتُ أطلب شعراً فعسر ذلك علي ، ورأيت في المنام كأن رجلًا لقيني فقال: يا إبراهيم ، أأعياك شعر لغنائك هذا الذي تعجب به. قلت نعم، قال: فأين أنت من قول ذي الرمة حيث قال:
ألا يا اسلمي يا دارَ ميٍ عن البِلى * ولا زال منهلاً بجرعائك القطْرُ
قال: فانتبهتُ وأنا فرح بالشعر، فدعوت من ضرب عليَّ وغنيته ، فإذا هو أوفق ما خلق االله.
من حيث المبدأ ، هذه الأبيات أتت على البحر الطويل ، وما أكثر القصائد في الشعر العربي، التي جاءت على البحر الطويل ، فلِمَ لم تتلاءم أي منها مع لحن ابراهيم الموصلي ، الذي كان وضعه أولاً ، ثم بحث له عن نصٍ ملائم ؟
تبربر وحيد عابر ورد في الخبر:
هذا البيت هو أوفق ما خلق الله!
وفي الواقع فإن التمعن في هذا البيت يكشف أسباب التوافق الذي أشار إليه الموصلي ، إذ حفل النص بالأحرف الصوتية القابلة للمد، و التي تعطي حرية كبيرة للملحن ، لتوفيق نبض لحنه مع مواقعها في النص.. ما يوجه الملحن إلى هكذا قصائد ،إلى جانب أسباب أخرى طبعاً ، ويبعده عن قصائد أخرى تقيده! ولهذا دراسة متكاملة ومقارنة أنشرها في الموسوعة إن شاء الله.
ولكن هذا الخبر العابر يطرح أسئلة لا تنتهي ، عابرة للحقب الزمنية ، أورد بعضها هنا:
- هل كان نظام بحور الشعر ، الذي وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي ، وأسلوب التقطيع العروضي المرتبط به ، و المعتمد على الحروف المتحركة والساكنة فقط ، كافياً للشعراء ، ولكنه لم يكن كافياً لتعريف العناصر الموسيقية في القصائد ، ومنها الأحرف الصوتية ، و بالتالي لم يكن يسمح بالتمييز بين تلك القصائد أمام الملحنين؟ وإذا كان الأمر كذلك .. فماذا ينقصه؟ وهل يمكن استدراك ذلك؟
- هل أسهم هذا الواقع في توجيه الملحنين إلى قصائد ليست من عيون الشعر لتلحينها مكتفين بملاءمتها للتلحين؟ و هل كان ذلك أحد أسباب أن الأغاني المائة المختارة ، التي وثق لها كتاب الأغاني ، لم تكن من عيون الشعر ، كما سبق و قلت في نشرة سابقة؟
- هل تسبب هذا الواقع ، إلى جانب أسباب أخرى ، في توجيه الملحنين إلى تلحين الأزجال بالعامية ، الحافلة بالأحرف الصوتية ، والتي تتسامح في مد الأحرف الساكنة ، على حساب توجههم إلى تلحين القصائد؟
- هل تسبب هذا ، إلى جانب أسباب أخرى ، في تأسيس ثنائيات ، تشكلت من شاعر وملحن ( بيرم التونسي وزكريا أحمد – أحمد رامي ومحمد القصبجي .. ) إذ أدرك بعض الشعراء حاجات الملحنين ، فأدخلوها في حسبانهم أثناء صياغة أشعارهم؟
- هل كان هذا أحد أسباب تميز الأخوين رحباني كشعراء وملحنين في الوقت ذاته؟
والقائمة طويلة!
يجيب عن هذه الأسئلة خبر آخر ، ورد أيضاً في كتاب الأغاني للأصفهاني ، و قد جاء في الجزء الخامس هذه المرة .. وللحديث بقية!