أثناء وضعي لدراسة عن شاعر الأطلال الدكتور إبراهيم ناجي في موسوعة كتاب الأغاني الثاني ، استوقفتني حالة غريبة : إقبال الملحنين على قصائده لم يأت إلا بعد وفاته!
وفي الواقع ، فقد رصد نظام معلومات الموسيقى العربية حالة وحيدة للتغني بأشعار ناجي ، في حياته ، وذلك وفق ما أورده الأستاذ حسن توفيق حول ذلك في كتابه : ابراهيم ناجي ، الأعمال الشعرية المختارة ، نقلاً عن مجلة الراديو المصري ، حيث تبين أن محمد صادق ، وهو ملحنٌ ومغنٍ مصري ، لحَّن أبياتاً من ثلاث قصائد لناجي ، هي قصائد : ” الوداع ” ، و ” الغد ” ، و ” توأم الروح ” ، وغناها عام 1935 على الهواء ، في حفلات الإذاعة المصرية ، في بداياتها ، ولم تسجل.
مر ذلك دون انتباه ، إذ مرت فترة طويلة ولم نلحظ أي أغنية بنيت على قصائد الدكتور ناجي ، فيما تسابق الملحنون على أشعاره بعد وفاته ، إذ ما إن توفي يوم 24 آذار / مارس 1953 ، حتى بدأت موجة ، بدأها محمد عبد الوهاب ، بقصيدة ” القيثارة ” ، التي كان اختار أبياتها من قصيدة طويلة لناجي عنوانها ” الخريف ” ، ليغنيها ، وبثت عام 1954.
أَيُّ سِــرٍّ فِيكِ إِنِّي لَسْــتُ أَدْرِي
كُلُّ مَا فِيكِ مِنَ الأَسْرَارِ يُغْرِي
خَطَرٌ يَنْسَابُ مِنْ مُفْتَـــــــرِّ ثـَغْرِ
فِتْنَةٌ تَعْصِفُ مِنْ لَفْتَــــــــةِ نَحْرِ
قَدَرٌ يُنْسَــــجُ مِنْ خُصْلَةِ شَـــعْرِ
زَوْرَقٌ يَسْــــبَحُ في مَوْجَةِ عِطْرِ
في عُبَابٍ غَامِضِ التَّيَّارِ يَجْرِي
وَاصِلاً مَا بَيْنَ عَيْنَــيْكِ وَعُمْرِي
رَفْرَفَ الصَّمْتُ وَلَكِنْ هَاهُنَــــــا
كُلُّ مَا فِيكِ مِنَ الْحُسْـــــنِ يُغَنِّـي
آهِ كَمْ مِنْ وَتَــــــــــرٍ نَـامَ عَـلَى صَدْرِ
عُودٍ نَوْمَ غَافٍ مُطْمَئِـــنِّ
وَبِهِ شَــــتَّى لُحُـــونٍ مِنْ أَسًــى
وَحَنِـيــــنٍ ، وَأَنِـيـــنٍ ، وَتَمَنِّـى
رَقَدَ العَاصِفُ فِــــــــيهِ وَانْطَوَتْ
مُهْجَةُ الْعُودِ عَلَى صَمْتٍ مُرِنِّ
هَـذِهِ الدُّنْيَـا هَجِـيـــــــــــــرٌ كُلُّهَـا
أَيْنَ في الرَّمْضَاءِ ظِلٌّ مِنْ ظِلاَلِكْ
رُبَّمَـا تَزْخَـرُ بِالْحُسْــــــــــنِ وَمَـا
في الدُّمَى مَهْمَا غَلَتْ سِرُّ جَمَالِكْ
رُبَّمَـا تَزْخَـرُ بِالنُّـــــــورِ، وكمْ
مِنْ ضِيَاءٍ وَهْوَ مِنْ غَيْرِكِ حَالِكْ
لَوْ جَرَتْ في خَاطِرِي أَقْصَى الْمُنَى
لَتَمَنَّيْتُ خَيَــــــــــــــالاً مِنْ خَيَـالِكْ
ثم جاء دور قصيدتي ” الأطلال” ، من ديوان ليالي القاهرة ، و ” الوداع ” ، من ديوان وراء الغمام ، اللتين تداولهما المطربون ، فجاءت أبياتٌ من قصيدة ” الوداع ” أولاً ، بصوت نجاة علي ولحن محمد فوزي ، عام 1954 بعيد وفاة ناجي ، و تضمنت البيت الشهير ” هل رأى الحب سكارى ” ، لتهدأ الموجة لسنوات ، قبل أن تعود ، عندما غنى كارم محمود في عام 1965 أبياتاً من قصيدة ” الأطلال ” ، بعنوان ” لست أنساك ” ، من ألحان محمد صادق مرة أخرى ، أي بعد مرور عشر سنوات على أغنية نجاة علي ، و قبيل غناء أم كلثوم لقصيدة الأطلال ، التي أتت لأول مرة في 7 نيسان / أبريل 1966 ، وبنيت على أبياتٍ مختارة من القصيدتين: ” الأطلال ” و ” الوداع ” لناجي!
غنت أم كلثوم لناجي بعدها قصيدة أخرى ، هي ” أنشودة مصر “، وكذلك غنت سعاد محمد قصيدة ” انتظار “، من قصيدة لناجي جاءت في ديوانه بعنوان ” الغد ” ، وهي القصيدة التي سبق أن لحنها وغنّاها محمد صادق على الهواء عام 1935 ولم تُسجل ، والقصيدتان أيضاً من ألحان رياض السنباطي ، الذي لحن وغنى لناجي قصيدة ” يا حبيب الروح ” ، وهي أبياتٌ من قصيدة له جاءت في ديوان ” وراء الغمام ” بعنوان ” ساعة لقاء”.
ولكن .. لماذا أثارت وفاة ابراهيم ناجي الانتباه إلى أشعاره ، فحرضت وضعها في دائرة الألحان ، بعد فوات الأوان!
ثم .. لماذا كان هذا التركيز على قصيديتين محددتين: الوداع والأطلال!
سؤالان قيد البحث!