في موسوعة كتاب الأغاني الثاني نحن نوثق عناصر كثيرة تعرِّف الأغاني : الشاعر ، الملحن ، المغني ، سنة نشر الأغنية لأول مرة وأداة النشر ، وهي عناصر خارجية على الأغنية ، تؤخذ من المراجع الوثوقة ، إضافة إلى المقام ، القالب الذي بنيت عليه الأغنية والكلمات ، وهي عناصر داخلية ، نستقيها من الوثيقة الصوتية الأقدم التي حملت هذه الأغنية. طبعاً في بعض الأحيان لا نستطيع تحديد الملحن أو الشاعر فنقول بأنه نص قديم أو لحن قديم.
أعمل حالياً على توثيق إحدى أغنية قدك المياس التي اشتهرت بصوت الأستاذ صباح فخري.
الوثيقة الصوتية:
تم تحديد أقدم وثيقة صوتية لهذه الأغنية وهي التي حملتها أسطوانة لشركة بيضا تعود لعام 1907 بصوت فرج الله بيضا المغني اللبناني.
الملحن:
تتداول مواقع الانترنت أن هذه الأغنية هي من تلحين الملحن والمنشد الشهير الملّا عثمان الموصلي .
تعريف مقتضب للملا عثمان الموصلي
سأنقل تعريف الملا عثمان كما ورد في الموسوعة العربية الميسرة:
الملا عثمان الموصلي (1854 – 1923) ، واحد من عمداء التلحين والقراءات السبع والإنشاد، يعرفه أهل العراق خاصة، واشتهر في تركيا وسورية ومصر. كان شاعراً بليغاً يجيد اللغتين الفارسية والتركية. وله مؤلفات عدة في الأدب، والشعر، والتصوف، ونظم الموشحات، وتشطير القصائد وتخميسها، وهو من القراء المعدودين في تلاوة القرآن. وله مذهب اختص به، في إنشاد قصائد المديح، وطرائق المولد النبوي والأذكار، وكان رخيم الصوت ضارباً بالقانون والعود، عالماً بالنغم وضروب الإيقاع، متفنناً في تلحين الموشحات.
لدى مراجعة التعريف نجد أن احتمال أن يكون اللحن لعثمان الموصلي وارد من حيث المبدأ ، ولكنه ، كما العادة ، بحاجة إلى تأكيد ورد في وثائق من العصر الذي عاش فيه الموصلي ، أو مقارنات تؤكد ذلك قياساً على ألحان أخرى له ، أو معلومات يمكن استقراؤها من الأغنية ذاتها ، كما سبق وفعلت مع أغنية الروزانا أو أغنية زوروني كل سنة مرة…
البحث عن تأكيد
لدى متابعة البحث ، تم رصد مقال للدكتور محمد صديق الجليلي ، وهو باحث هام عَّرفته موسوعة ويكيبيديا كباحث عراقي هام شارك في المؤتمرات الموسيقية ومنها مؤتمر الكندي 1962ببغداد وندوة الفلكلور العربي ببغداد عام 1978،1980. ومؤتمر الموسيقى الدولي الثاني ببغداد عام 1978. وكان رئيساً لجمعية التراث العربي بين عامي 1973-1977.
الدكتور الجليلي وفي مقال بعنوان: التراث الموسيقي في الموصل والمقامات الموصلية كتب:
رابط المقال:
https://iraqimaqam.blogspot.com/2012/10/blog-post_17.html
“كما انتشر لحن الاغنية التركية القديمة المسماة بنشيد استانبول (استانبول شرقيس) وهي من مقام الحجاز، ومطلعها (اطه لرساحلنده بكليورم) فقد استبدلت كلماتها بقصيدة (يا ليل الصب متى غده) لابي الحسن الحصيري القيرواني ; ويظهر ان وزن هذه القصيدة قد اتفق صدفة مع لحن هذه الاغنية وايقاعها، هذا كما نظم على لحنها في سوريا اغنية (قدك المياس يا عمري) وفي بغداد النشيد المدرسي (وطني والحق سينجده)”.
لم يشر الدكتور الجليلي إلى عثمان الموصلي كملحن لهذه الأغنية! فيما توقف عند عثمان الموصلي في المقال ذاته ليقول عنه ” ومنهم الاديب والموسيقار الشهير الملا عثمان الموصلي المتوفي 1341 هـ (1923م) وله ما يزيد على الخمسين موشحا، جميعها من الألحان النفيسة واشهرها موشح (يا آل طه فيكم قد هام المضنى) من مقام الرست والحان هذا الموشح على جانب عظيم من الفخامة هذا والمرحوم الملا عثمان الموصلي كان من احد اساتذة المرحوم الشيخ سيد درويش وكذا من اساتذة الشيخ على محمود المقرئ والمنشد المصري الشهير.”
البحث في المراجع التركية
وهنا كانت رحلة بحث عن الأغنية التركية التي أشار إليها الدكتور الجليلي : Ada Sahillerinde Bekliyorum
المراجع التركية تثبت أن لحن الأغنية التركية هو للملا عثمان الموصلي
لدى البحث عن ملحن تلك الأغنية التركية وجدتُ أنها تثبت أنه الملا عثمان الموصلي مايؤكد المعلومات حتى الآن
أسئلة لا تزال بحاجة للمزيد من التدقيق
ومع ذلك فهناك أسئلة كثيرة لا تزال بحاجة إلى بحث:
أولاً : المذهب في الأغنية جاء بالفصحى فيما جاءت الأغصان بالعامية:
قدك المياس يا عمري يا غصين البان كاليسر * أنت أحلى الناس في نظري جل من سواك يا قمري
عيونك سود يا محلاهم قلبي تلوع بهواهم * صار لي سنتين بستناهم حيرت العالم في أمري
ثانياً : لو دققنا في المذهب ، لوجدنا أن المعنى فيه غير مكتمل ! فالجملة التي تبدأ بالمبتدأ : قدك المياس لم تجد خبراً لها! فهل يمكن أن يلحن هذا المذهب من عُرف بتشطير القصائد وتخميسها؟
ثالثاً : كلمة : كاليسر لا معنى لها هنا .. فما هو اليسر؟
اليسر لغة هو الملاءة المالية أو الغنى ، وهذا المعنى لا علاقة له بالقوام الميّاس!
بالتدقيق أكثر وجدتُ أن اليسر هو أيضاً نوع من المرجان ، ويسمى المرجان الأسود ، الذي يستعمل في صناعة المسابح ( المفرد مسبحة) ، وهذا أيضاً لا علاقة له بالقوام المياس ولا بغصين البان!
ومع ذلك فقد تابعت البحث ، فوجدتُ أن شجر البان يسمى أيضاً شجر اليسر ، وهو من الأشجار المعروفة ، التي تنبت وتنمو في منطقتي تبوك والمدينة المنورة!ولكن كيف عرف الملا عثمان بها؟ الإجابة تأتي عندما نعلم أنه حج إلى بيت الله الحرام عدة مرات.
على كل حال هذا يسمح بتوقع أن يكون النص كما يلي:
قدك المياس يا عمري يا غصين البان واليسر
ولكن هذا لا يحل وضع الجملة غير المكتملة وبالتالي فالأفضل اقتراح أن يكون النص:
قدك المياس يا عمري كغصين البان واليسر
وهناك احتمال آخر قريب جداً من اللفظ السائر حالياً ، إذا استبعدنا أن يكون المقصود باليسر هو شجر البان:
قدك المياس يا عمري * بغصين البان كم يزري ( أي يعيب و يحقِّر)
نتيجة
على كل حال ، هذا في مجمله يبين أنه لا يوجد ما يمنع اعتماد أن الملا عثمان الموصلي هو من لحن هذه الأغني الشهيرة..
قصيدة ياليل الصبُّ!
كان ذلك إلى أن وصلنا لتوثيق قصيدة يا ليل الصبُّ لأبي الحسن الحصري القيرواني ، التي اشتهرت عندما غنتها السيدة فيروز . فاللحن واحد ، كما يبين التسجيل المقارن التالي ، بين نسخة لأغنية يا ليل الصب تعود لعام 1922 ، وقدك المياس بصوت الأستاذ صباح فخري:
أشير إلى أن أول وثيقة صوتية لقصيدة يا ليل الصب ، حملها تسجيل فرج الله بيضا عام 1907.
ما أعادنا بالنتيجة إلى طرح السؤال بصيغة جديدة: من لحن الأغنيتين: قدك المياس ويا ليل الصب؟
أعتقد أن الملا عثمان الموصلي هو من نظم لحن قدك المياس ، ثم وضع نص يا ليل الصب متى غده على شكل قد صوفي بالفصحى ، مثلما كان ذلك دائماً ( راجع دراستي عن القدود الحلبية)، خاصة أن الملا عثمان أقام في حلب أولاً بين عام 1906 و 1909 ، حيث غادرها إلى الحج ثم عاد إليها ليقيم فيها لسنوات تالية.