أشرت فيما سبق إلى أنني وجدتُ ، وفي سياق إنجاز موسوعة كتاب الأغاني الثاني ، أن مشاركة أفكارٍ ، من نتاج يوم عمل ، أحياناً ، ولو كانت غير مكتملة ، أو كانت تطرح أسئلةً أعمل على الإجابة عنها ، مفيدة .. إذ أن الكتابة لقارئ يتفاعل آنياً ، تختلف عن كتابة دراسات لتنشر بعد حين ..
أنا أعمل منذ فترة طويلة على الإجابة عن سؤال محدد ، يشكل أحد محاور موسوعة كتاب الأغاني الثاني : ماذا قدم لنا كتاب الأغاني موسيقياً؟
هذا محور مهم طالما أنني نسبت موسوعة كتاب الأغاني الثاني ، وهي موسوعة موسيقية أساساً ، إلى ذلك الكتاب ، ما يستدعي تحديد مكانته موسيقياً ، إذ أن الحفاوة التي شهدها ، كانت في عالم الأدب والشعر أساساً ، نظراً لتوثيقه النصوص الشعرية للأصوات ( الأغاني ) المائة المختارة ، التي اختارتها لجنة من الملحنين لهارون الرشيد ، بناء على طلبه ، ومن ثم توثيق الكتاب لسِيَرِ الشعراء والملحنين الذين أبدعوا تلك النصوص والألحان.
اختارت اللجنة ، وكانت ضمّت ابراهيم الموصلي وابن جامع وفليح بن أبي العوراء ، كما هو معروف ، أهم مائة صوت ، ثم الأصوات العشرة الأهم ، فالأصوات الثلاثة الأهم. قالت اللجنة في معرض تبريرها للأصوات الثلاثة المختارة : لقد اختزلت الغناء العربي كله.
طبعاً الموضوع كبير ، وأنا أمضي حالياً وقتاً طويلاً في إعادة قراءة مجلدات كتاب الأغاني بشكل متأنٍ ، لرصد أي جملة فيه ، يمكن أن تسمح لي بتحديد العناصر الموسيقية في كتاب الأغاني ، وصولاً إلى تحديد مكانته الموسيقية ، بغض النظر عن مكانته في عالم الأدب والشعر.
سأضعكم ،كلما أتيحت الفرصة ، في صورة ملخصة للعناصر التي أرصدها ، والأسئلة التي تطرحها ، والتي تحتاج إلى إجابات.. وإليكم اليوم نتائج أولية مفاجئة .. وأسئلة مفتوحة!
الأصوات الثلاثة الأولى وما تحمله من معلومات خفية!
راجعتُ الأصوات الثلاثة المختارة فوجدتها كما يلي:
لحن معبد في شعر أبي قطيفة وهو من خفيف الثقيل الأول (من البسيط ) :
القصر فالنخل فالجماء بينهما أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
ولحن ابن سريج في شعر عمر بن أبي ربيعة، ولحنه من الثقيل الثاني ( من الطويل ) :
تشكى الكميت الجري لما جهدته وبين لو يسطيع أن يتكلما
ولحن ابن محرزٍ في شعر نصيب، وهو من الثقيل الثاني أيضاً ( من الطويل ):
أهاج هواك المنزل المتقادم؟ نعم، وبه ممن شجاك معالم
وقيل بأن هذه الأصوات الثلاثة لا تبقى نغمةٌ في الغناء إلا وهي فيها.
هناك من أضاف صوتين آخرين إلى القائمة ، ولكن القائمة المعتمدة في كتاب الأغاني ركزت على هذه الأصوات الثلاثة. هذا موضوع سأعود إليه لاحقاً ، إذ أن له دلالاته!
تسلسل الأحداث الزمني .. يكشف أشياء!
بدأتُ بتحديد الفترات الزمنية المتعلقة بهذا الخبر ، الذي يرد في الصفحة الأولى من كتاب الأغاني ، وكانت مفاجأة كبيرة : الملحنون الثلاثة : معبد وابن سريج وابن محرز ، هم من ملحني العصر الأموي ، وكذلك الشعراء! طبعاً كنت أعرف عائدية كل منهم بمفرده ، ولكنها المرة الأولى التي أنتبه فيها ، إلى أنهم جميعاً يعودون إلى العصر الأموي! فإذا كانت هذه الألحان قد اختزلت الغناء العربي كله ، ولم يبق نغمة في الغناء إلا وهي فيها ، وهي من نتاج العصر الأموي ، فهل يعني هذا أن العصر الأموي ، شهد اكتمال عناصر اللغة الموسيقية العربية ، بشكل سمح لها أن تبقى مهيمنة ، حتى بعد عشرات السنين؟ نتيجة مفاجئة .. إن صحَّت!
وكان لابد من استجلاءٍ أعمق للعلاقات الزمنية ..
عدت مرة أخرى إلى التسلسل الزمني . الدولة العباسية بدأت في عام 750 ميلادية ، وهارون الرشيد ، الذي كان من أهم الخلفاء العباسيين ، و جرت عملية الاختيار في عهده ، استلم الخلافة في عام 787 وبقي إلى عام 809 ميلادية ، أي أن عملية اختيار الأغاني الأهم ، والتي حددت ، للمواقع الثلاثة الأولى ، أغنياتٍ من العصر الأموي فقط ، تمت ، على الأقل ، بعد مرور 40 عاماً على قيام الدولة العباسية ، وهذه نتيجة مفاجئة أيضاً!
وهنا تبرز الأسئلة التالية:
ألم تقدم تلك السنوات الأربعون ، من عمر الدولة العباسية ، أي لحن يحمل عناصر جديدة ، تجعله جديراً بأن يكون ضمن الألحان الأولى؟
هل يؤكد ذلك أن العصر الأموي استكمل عناصر الموسيقى العربية حتى زمان هارون الرشيد؟
ماهي الأسباب التي مكنت العصر الأموي من تحريض نهضة موسيقية ، هيمن نتاجها على ألحان العصر العباسي ، لعشراتٍ تالية من السنين؟
ابن خلدون قال في مقدمته : ” ما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس ” ، فماهي الأسباب التي سمحت بانطلاقة جديدة للموسيقى العربية في عهد الرشيد ، وصّفها كتاب الأغاني ، وهل كانت نتيجة هذا الاختيار .. أحد عوامل إطلاقها؟
بالمقابل :
شكل هارون الرشيد اللجنة من كبار ملحني عصره ، ما تسبب في أن تستبعد أعمال أي منهم من قائمة الألحان الأولى ، وهنا سؤالان:
ألا يمكن أن يكون السبب في غياب ألحانٍ لملحني الدولة العباسية ، قيام اللجنة المشكلة من ملحني العصر العباسي ، باستبعاد أي لحن لملحن معاصر لهم ، من قائمة الألحان الأولى ، طالما أن موقعهم كلجنة ، لا يسمح لهم بأن تكون ألحانهم ضمن تلك القائمة؟
وبالتالي يطرح السؤال المشروع : عندما شكل هارون الرشيد اللجنة من كبار ملحني عصره : هل ظلم هارون الرشيد عصره وملحنيه؟
أسئلة تبقى مفتوحة تحتاج إلى إجابات