رباعيات الخيام كتبها عمر الخيام بالفارسية ، فيما ترجمها عشرات الشعراء للعربية ، منهم : وديع البستاني ، عيسى المعلوف ، محمد السباعي، أحمد الصافي النجفي، أحمد رامي، أحمد الصراف، عبد الرحمن شكري، ابراهيم المازني، أبو شادي، ابراهيم العريض، جميل صدقي الزهاوي، عبد الحق فاضل ، أمين نخلة …
ولكن ترجمة رامي أصبحت الأشهر ، عندما قررت السيدة أم كلثوم ، في عام 1949 ، أن تغني رباعيات مختارة منها. فهل كانت الأهم؟ وهل غطت شهرتها على أهميتها نسبة للترجمات الأخرى؟
للإجابة عن هذا السؤال ، كان لابد من المقارنة بين ترجمات للرباعيات ، للبحث في درجة التركيز فيها . توقفت عند الرباعية الأولى ، مما اختارته أم كلثوم منها ، لكي أقارن بين ترجمة وديع البستاني و أحمد الصافي النجفي ورامي لتلك الرباعية :
ترجمة وديع البستاني :
بت في حانتي سمير المدام
وقبيل انهزام جند الظلام
هتف الطيف بالندامى النيام
أيها الغافلون هبوا قياما
وارشفوها وودعوا الأياما
قبل أن تجرعوا كئوس المنايا
وتعافوا والخمر عزت شرابا
ترجمة الصافي النجفي:
جاء من حاننا النداء سُحيرا
ياخليعا” قد هام بالحانات
قم لكي نملأ الكؤوس مداما
قبل أن تمتلي كؤووس الحياة
ترجمة رامي: ما بين القوسين هو ما تم تعديله في النسخة التي غنتها أم كلثوم
سمعت صوتاً هاتفاً في السحر
نادى من الحان ( الغيب ) : غفاةَ البشر
هبوا املأوا كاس الطلى ( المنى ) قبل أن
تفعم ( تملأ ) كاسَ العمر كفُّ القدر
لاحظتُ ببساطة أن ترجمة البستاني مطولة ، ما تسبب في تشتت المعاني ، فيما يبدو التركيز واكتمال المعاني وسبكها أوضح ، وأكثر تكاملاً ، في ترجمة رامي ، مما ورد في ترجمة النجفي..
نعم ، هذا نموذج مقارن يبين التركيز الشديد ، و اكتمال المعاني ، و مهارة السبك ، ورشاقة النظم ، في ترجمة رامي.. ولكنه يطرح السؤالين التاليين :
1- من المحتمل طبعاً أن حفظنا لأغنية أم كلثوم يوجهنا لتفضيل ترجمة رامي ، إذ أن التأثر بعمل شهير ، أشد من التأثر بأعمال غير شائعة ، ولكن .. هل استكان الناس للأمر ، واعتبروا أن مكانة هذه الترجمة تأتت من أداء السيدة أم كلثوم .. فظُلمت الترجمة؟
2- هل ستثبت أي دراسة مقارنة متكاملة للترجمات ، أن ترجمة رامي ، بمعزل عن أداء أم كلثوم لها ، كانت من أهم الترجمات .. إن لم تكن الأهم؟!
وهكذا تابعت دراسة الموضوع ، وتساءلت؟
هل كانت ترجمة رامي للرباعيات عن النسخة الإنجليزية أم عن الفارسية؟ البحث في هذا الموضوع كشف نقطة هامة كانت غائبة وأجابت عن سؤالي الأساسي الخاص بالأهمية!
هذه النقطة أثارت لغطاً كبيراً ، فهناك من يؤكد أن رامي ترجم الرباعيات عن الإنجليزية ، فيما تبين مقدمة الكتاب ، الذي تضمن ترجمة رامي ، والتي كتبها بنفسه ، أنه ترجمها عن الفارسية ، إذ كان قد أوفد إلى باريس لدراسة الفارسية ، في معهد اللغات الشرقية ، وهناك ترجم الرباعيات. الصورة التالية تبين ذلك:
ومع ذلك ، فإنه من المفيد التوسع في هذا الموضوع قليلاً ، لسبر أسباب تأكيد البعض أن ترجمته كانت عن نسخة الرباعيات الإنجلزية الشهيرة ، التي ترجمها الشاعر فيتزجرالد.
الواقع أن رامي ترجم الرباعيات عن الفارسية مباشرة ، كما توضح الصورة أعلاه ، بل وكان أول من ترجمها عن الفارسية ، فيما كانت الترجمات إلى العربية التي سبقته قد ترجمت عن نسخة فيتزجرالد! لنتابع التسلسل الزمني لأقدم الترجمات:
ترجمة وديع البستاني 1912 عن الإنجليزية وطيعت في بيروت
ترجمة عبد اللطيف النشار – 1917 عن الإجليزية وطبعت في مصر
ترجمة محمد السباعي 1922 عن الإنجليزية وطبعت في مصر
ترجمة أحمد رامي 1924 عن الفارسية وطبعت في مصر
ترجمة جميل صدقي الزهاوي 1928 عن الفارسية وطبعت في بغداد
ترجمة أحمد الصافي النجفي 1931 عن الفارسية وطبعت في دمشق
ولكن ، لماذا كان هذا التأكيد من البعض على أنه ترجم عن الإنجليزية ؟
في الواقع ، لم ينظم الخيام رباعياته في يوم واحد ، بل كان ذلك في سياق حياة مديدة. عندما نُشرت الرباعيات بالفارسية ، ونظراً لأن كل رباعية هي كلٌّ متكامل ، تبين فكرة واضحة ، لها بداية ونهاية ، وفي ظل غياب أي توثيق زمني ، فقد رُتِّبت الرباعيات عندما جُمعت ، وفق الترتيب الأبجدي للروي ، أي الحرف الأخير في قافية الرباعية ، وهذا أسلوب معمول به في دواوين الشعر القديمة ، ومنها مثلاً ديوان العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي. أشير هنا إلى أن الصافي النجفي ، اعتمد هذا الأسلوب أيضاً في ترتيب الرباعيات ، عندما ترجمها عن الفارسية ، بعد رامي بأربع سنوات ، فرتبها حسب الترتيب الأبجدي للروي الوارد في ترجمته ، فجاءت ترجمةً لا تعكس تطور فكر الخيام على امتداد حياته!
تسبب الأسلوب الذي رتبت وفقه الرباعيات في النسخة الفارسية ، في تداخل الأفكار التي عبرت عنها كل رباعية ، إذ تقاطعت رباعيات الخمريات ، التي أتت في فترة مبكرة ، مع رباعيات الحِكَم ، ورباعيات الأسئلة الكبرى في الحياة ، و رباعيات التوبة وطلب المغفرة و مناجاة الخالق عز وجلّ ، التي أتت في فترات لاحقة.
رأى فيتجرالد أن هذا التداخل ، قد يسبب تشويشاً لدى القارئ بالإنجليزية ، الباحث وفق منطقه المعتاد ، عن المعاني وتطورها مع الزمن.
ولذا فقد حاول فيتزجرالد أن يحول الرباعيات المترجمة إلى تسلسل قصصي ، فتخيل أن حياة الخيام تختصر في يوم واحد طويل ، يمتد من انبلاج الفجر حتى الهزيع الأخير من الليل ، معتبراً أن الرباعيات تروي مجريات ذلك اليوم الطويل ، والأحاسيس والمشاعر التي يعيشها الخيام خلاله ، وهو الإنسان المثقل بالتفكير في أسرار الوجود ، والمقتنع بأنه لن يؤمن إلا بما يقتنع به ، من خلال ذلك التفكير ، والذي يعود ، كلما تشابكت وتداخلت الأفكار أمامه ، وأحس بالضياع أمامها ، إلى كأس الخمر ليهرب من ذلك الضياع ، ثم ليعود إلى أفكاره ، إذ تجتذبه مجدداً ، ليكمل يومه في هذه الجدلية ، بين التفكير .. و الهروب منه!
رتب فيتزجرالد ترجمته وفق هذا المنطق ، الذي يمكن أن يقبله القارئ في الغرب ، بناءً على ما تشي به بعض الرباعيات ، من مرورٍ للزمن في سياقها ، وهكذا بدت الرباعيات إذاً ، في نسختها الإنجليزية ، وكأنها تعكس تسلسلاً زمنياً ، في يوم كامل من حياة الخيام ، يعبر في طيفه العام ، عن مسيرة حياة كاملة.
من أجل تثبيت هذا المنطق المفترض ، بدأ فيتزجرالد ترجمته بالرباعية التي تنبئ عن انبلاج الفجر:
WAKE! For the Sun behind yon Eastern height
Has chased the Session of the Stars from Night;
And to the field of Heav’n ascending, strikes
The Sulta’n’s Turret with a Shaft of Light
وهي ذاتها التي بدأ بها رامي ترجمته:
سمعت صوتاً هاتفاً في السحر
نادى من الحان ( الغيب ) : غفاةَ البشر
هبوا املأوا كاس الطلى ( المنى ) قبل أن
تفعم ( تملأ ) كاسَ العمر كفُّ القدر
أي ان رامي اتبع ترتيب فيتزجرالد .
أي أن رامي اتّبع أسلوب فيتزجرالد ومنطقه في الترجمة ، فبدأ بالرباعية التي ابتدأ بها فيتزجرالد ترجمته ، واتبع الترتيب الذي ابتدعه ، دون أن يترجم عنه! وهذا ما وجه بعض المتابعين ، من غير المدققين ، للتأكيد على أن الترجمة كانت عن الإنجليزية!
النقطة التي أكدت أهمية ترجمة رامي بين الترجمات الأخرى إلى العربية:
لاحظ رامي أن فيتزجرالد ، وقد رغب أن يقدم الخيام إلى قرّائه بالإنجليزية ، على أنه شاعر الخمريات ، استبعد الرباعيات التي تشتمل على التوبة ، وطلب المغفرة ، ومناجاة الخالق عز وجل ، لأنه رآها تتضارب مع فكرة الرجل المخمور ، الضائع بين أفكار متضاربة ، و لأنها تخرج عن تلك الجدلية بين التفكير والهروب منه ، وتصل إلى نتيجة! فكانت ترجمةً منقوصة!
استدرك رامي ذلك ، عندما ترجم تلك الرباعيات ، إذ ترجم الرباعيات المستبعدة في نسخة فيتزجرالد ، ووضعها في ختامات الرباعيات ، ومنها:
إن لم أكن أخلصت في طاعتك
فإنني أطمع في رحمتك
وإنما يشفع لي إنني
قد عشت لا أشرك في وحدتك
وكذلك:
ياعالم الأسـرار علم الـــيقين
ياكاشف الضر عن البائسيـن
ياقابل الأعــذار فئنا ( عدنا ) إلى
ظلك فاقــبل توبـة التائبيــن
يثبت هذا أن ترجمة رامي للرباعيات إلى اللغة العربية ، كانت الأكمل بين ما سبقها من الترجمات ، التي كانت كلها عن نسخة فيتزجرالد الإنجليزية المنقوصة ، وكانت ترجمته بالتالي الأهم ، لأنها استكملت ، و لأول مرة ، أمام القرّاء بالعربية ، فكر الخيام ، إذ ضمت الرباعيات التي عنيت بالتوبة وطلب المغفرة و بمناجاة الخالق عز وجل ، كما جاءت مرتبة وفق تطور المعاني ، وليس حسب الترتيب الأبجدي للروي ، الذي اعتمده الآخرون ، ما جعلها فعلاً تبين التحول الكبير ، الذي طرأ على فكر الخيام ، و توضح تطور علاقته بالدين و بالإيمان ، بل إنني أقول ، بأن أم كلثوم لم يكن لها أن تغني الرباعيات ، لو أن الرباعيات المعنية بالتوبة و طلب المغفرة ، المستبعدة في النسخة الإنجليزية ، لم تكن حاضرة في ترجمة رامي!
ومن هنا فإنني أرى أن من واجبنا أن نعتبر أن أحمد رامي ، كان الأول ، في تقديم صورة مكتملة لفكر الخيام ، باللغة العربية ، ولعله بهذا جعل ترجمته .. الأهم!