في عام 1953 ، اختار الرحابنة قصيدة في مديح الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بعنوان «أقول وآنست بالليل ناراً» للشاعر والرحالة الأندلسي ابن جبير ، كتبها أثناء رحلته إلى المشرق العربي والأراضي المقدسة ، فيما عرف برحلة ابن جبير . سجلت السيدة فيروز القصيدة تحت عنوان «الهجرة» للمرة الأولى في «إذاعة الشرق الأدنى» ، ضمن برنامج خاص بعيد السنة الهجرية عام 1953، وأُعيد بثّها تحت عنوان «أقول وآنست بالليل ناراً».
وقع الأخوان رحباني اللحن باسم مستعار هو ” أمين أبو صالح ” ! جاء هذا بسبب الحملة الشرسة التي تعرضا لها ، في بداية مسيرتهما ، وقد اتهمهما الجميع بالتغريب ، و الافتقار إلى المعرفة اللازمة لتلحين الأغاني الشرقية ، ما جعلهما يقدمان على تلحين هذه القصيدة وغيرها ، وفق قالب القصيدة الغنائية التقليدية ، مع السعي للالتزام بكافة القواعد المعتمدة لتلحين هذا القالب ، وفق أصولها .. حتى أنهما ، كما سنرى ، أعادا تسجيل القصيدة بعد سنوات ، لتجاوز هنّة في اللحن .. لم ينتبه إليها أحد!!
التسجيل المرفق هنا أقول وآنست بالليل نارا التسجيل الأول 1953 الشرق الأدني معتمد هو التسجيل الأصلي الذي تم تسجيله عام 1953.
يبدو التسجيل نقياً فيما يخص صوت السيدة فيروز ، بينما يمكن القول بأن أداء الفرقة الموسيقية في التسجيل لم يكن كما يجب . يمكن ملاحظة أن لحن كلمة الدجى أتى فيه مديداً ـ للتعبير عن ظلام الليل المديد ، وهي ملاحظة تبقى حالياً في الذهن لأننا سنستفيد منها لاحقاً . الرحبانيان اللذان اعتادا الإتقان في إعمالهما ، لاشك لاحظا بأن أداء الفرقة لم يكن كما يجب ، ولذا فقد أعادا تسجيل القصيدة لاحقاً عام 1961 ، لصالح إذاعة BBC ، مع فرقة موسيقية أخرى ، وبتوزيع وإخراج موسيقي جديد.. . ولكن هذا لم يكن السبب الوحيد لإعادة التسجيل..
لنتابع تحليل هذه القصيدة مع مشاهدة التسجيل الثاني في الفيديو المرفق أدناه ، والذي أضفتُ إليه صوراً من المسجد النبوي الشريف.
جاءت القصيدة في لحن وقور رصين ملائم لمناسبة بث القصيدة ومضمونها ، بني ، في مشهدها الافتتاحي ، على مقام البيات الشجي ، ثم جرى اعتماد تغيرات مقامية مع تتالي مشاهدها . اعتمد الأخوان رحباني قالب القصيدة الغنائية التقليدية في تلحين هذه القصيدة ، مع الالتزام بتوفير المدود اللازمة للفظ عربي فصيح ، و إدماج تقاطعات للموسيقى بين شطرات البيت الواحد دون تفكيك وحدة شطرة البيت.
يلفت النظر ، ومن البداية ، أن لحن كلمة الدجى ، في البيت الثاني من هذا المشهد ، أتى سريعاً ، فيما أتى في التسجيل الأول ممدوداً ! وهنا نقطة تفصيلية في التعبير اللحني ، لأن مدَّ كلمة الدجى كما جاءت في النسخة الأولى ، يتعارض مع المعنى في القصيدة ، لأن أفق الدجى لم يكن مظلماً ، وإنما كان “كأن سنا البرق فيه استطارا ” فلم يعد مظلماً!.. وأنا أعتقد أن هذا التصويب كان أيضاً من أسباب إعادة التسجيل بعد سنوات ، ، خاصة لنموذج أراده الأخوان رحباني مكتملاً ، من الناحية التعبيرية عن المعاني!
المشهد الأول
أقول واّنست بالليل نارا لعلً سراج الهدى قد أنارا
وإلا فما بالُ اُفق الدُجى كأنً سنا البرق فيه استطارا
ومع تتالي المشاهد نلحظ تتالي التغيرات المقامية ، إذ جاء المشهد التالي على مقام البيات الشوري ، في إضفاء لنفحة عاطفية مع الاقتراب من ( الرسول ) الحبيب :
المشهد الثاني
وهذا نسيمُ شذا المسك قد أًعير أَم المسكُ منه استعارا
بشائر صبح السّرى اّذنت بأنً الحبيب تدانا مزارا
ليأتي المشهد الثالث على مقامي الكرد والعجم ، مع تصاعد الحماس ، و طيران القلوب حنيناً وهو ما تعبر عنه نقرات القانون . شاركت المجموعة بكلمتي : حنيناً وشوقاً ، للتأكيد على الحنين والشوق ، مع تصاعد اللحن كل مرة ، خاصة أن البيت الأول في هذا المشهد ، أشار إلى وجود الركب . يمكن التوقف عند لحن كلمة : وطار ، المتصاعد ، والمعبر عن العلوّ ، والمتصاعد عند : أحمدَ المصطفى تحبباً
المشهد الثالث
جرى ذكرُ طيبتها ما بيننا فلا قَلبُ في الًركب إلا وطارا
حنينا إلى أحمدَ المُصطفى وشَوقا يهيجُ الضُلوع استعارا
في المشهد الرابع كان مقام النهاوند الحامل للّحن ، مع امتداد لحن كلمة : الرسول ، تأكيداً ، ثم يدخل اللحن في إيقاعية حماسية مع المجموعة عند : وقفنا بروضة دار السلام ، مع تحوله إلى مقام الراست ، و تردادٍ من فيروز ، فيما يشبه الهنك في قالب الدور ، بالتناوب بينها وبين المجموعة ، وذلك في تعبير عن التكرار عند : نعيد السلام عليها مرارا . وبالنتيجة إنه لحنٌ يحاول تصوير رهبة المشهد ، عند الوقوف بروضة دار السلام.
المشهد الرابع
ولما حللنا فناءَ الرسول نزلنا بأكرم خلق جوارا
وقفنا بروضة دار السلام نُعيد السلام عليها مرارا
ويتصاعد اللحن في المشهد التالي ( الخامس ) مبنياً على مقام الهزام ، في تعبير جليِّ عن الشوق ، ليصل إلى أحدِّ أصواته ، عند : دعانا إليك هوى كامنٌ ، مع عودة إلى مقام الكرد
المشهد الخامس
إليك إليك نبيً الهُدى ركبنا البحار وجبنا القفار
دعانا إليك هوى كامنٌ أثار من الشوق ما قد أثار
ليبدأ اللحن رحلة الختام في تخافض متتالٍ ومسار مرسل دون إيقاع ، في المشهد الساس والأخير.. وهنا تقوم فيروز بصوتها بإنطاق مقام البيات ، في اللحظات الاخيرة من الأغنية ، عند كلمة : ولاذُلَّ ، لتحقيق الالتزام بقالب القصيدة التقليدية ، في العودة إلى مقام البداية ، وفي إثباتٍ لقدرتها على التحكم بصوتها لأداء المقامات الشرقية دون تمهيد من الموسيقى..
المشهد السادس
عسى لحظةٌ منكَ لي في غد تمهد لي في الجنان القرارا
فما ضل من بسُراك اهتدى ولا ذُلً من بذراك استجارا