عرفت فاتح المدرس في سن الصبا في حلب، فهو صديق العائلة ، ثم اقتربت منه أكثر بعد أن أقمت في دمشق ، أستاذاً في كلية الهندسة بجامعة دمشق وزميلاً له في الجامعة.
كان هناك توافق بين علاقتي مع الموسيقى وعلاقته بها .. فأنا ، ورغم أنني كنت مدرس آلة القانون في المعهد الموسيقي بحلب ، فقد كنت أركز في عزفي على الارتجال ، في بعده التعبيري على الغالب ، مبتعداً عن عزف مؤلفات موسيقية لآخرين . وبالمقابل كان فاتح المدرس عازفاً بارعاً على البيانو ، ولكنه يركز في عزفه على الارتجال التعبيري أيضاً ، مع التركيز على مقام موسيقي محدد لا يغيره!
كثيراً ما كنت أتابعه يعزف في مرسمه ، لينتقل إلى متابعة رسم لوحة كان بدأها ، ليعود إلى العزف ، فالرسم ، وكأنما كان عزفه يحرض لديه أشكالاً أو ألواناً يجري تجسيدها على اللوحة ، وكأنما كان لكل شكل أو لون شخصية ما ، يوظفها في بناء فضائه الذي رسمه من البداية!
بالمقابل كان بيننا توافق آخر : عندما أرتجل على القانون ، أقوم مسبقاً برسمٍ ، ولو لحظي ، للفضاء الذي سأدخله ، و البناء الذي سيجسده ، وأترك الباقي للحظة الغالبة ، والمشاعر المتولدة ، آنياً ، من استماعي لما أعزف ، في تفاعل جدلي لا ينتهي.
كان فاتح المدرس يرسم بالطريقة ذاتها : يرسم فضاء لوحته ويحدد هيكلها ، ثم يبدأ بإغنائها بالتشكيلات والألوان ، في دفق إبداعي يتأثر بالمحيط واللحظة ، و بوعيه لما كان قد رسم!.
ولذلك .. عندما قررت أن أخصص حلقة لاستكشاف العلاقة بين الموسيقى والألوان ، في وجهها الآخر ، الذي يمر عبر الإنسان ، هادفاً إلى إجراء تجربة غير مسبوقة تُرتجل فيها الموسيقى ويُرتجل فيها التشكيل واللون .. لم أجد إلا فاتح المدرس ، ليكون شريكي في رحلة الاستكشاف هذه!
طرحت عليه في مرسمه ، أولاً ، الأفكار الشائعة حول أوجه العلاقة بين الموسيقى والألوان ، و ذكّرته بفيلم والت ديزني : فانتازيا ، الذي اعتمد على علاقة آلية بين حدة الصوت وحرارة اللون ، و بين عرض الصوت وبرودة اللون. سألته هل يؤيد ذلك ، أم أنه يرى أن تلك العلاقة تمر عبر الدماغ الإنساني ، وتفاعلاته الذاتية ، والعواطف ومتغيراتها ، التي تختلف بين مستقبل وآخر ، مدركاً مسبقاً أنه سيعارض الأوجه الشائعة للعلاقة ، في حماس ، مراهناً على أنه بذلك ، سيكون قد دخل في جو حوار ، سيجد طريقه لاحقاً إلى الجمهور العام ، عبر الكاميرا.. وأن الموسيقى والرسم لن يكونا غائبين .. وهكذا كان!
في هذا المشهد الثاني من لقائي مع فاتح المدرس ، نتوقف عند الإنسان ودوره في تجسيد العلاقة بين الموسيقى والألوان ، انطلاقاً من تجربةٍ شخصية!
في نشرتي التالية سأسعى لوصف العملية الإبداعية المركبة التي كنت أخطط لها ومطبّاتها!