أتوقف اليوم عند أغنية ” مظلومة ياناس ” ، التي أطلقت شهرة الفنانة الكبيرة #سعاد_محمد ، من كلمات الشاعر اللبناني محمد علي فتوح ، و ألحان الملحن السوري القدير الراحل محمد محسن.
محمد محسن ملحن سوري قدير ، استطاع أن يجد له مكاناً في زمن الكبار ، إذ شكل ، مع محمد عبد الوهاب ، حالة خاصة لملحنَين غير لبنانيَين تغني فيروز من ألحانهما.
سافر إلى القدس ، للعمل في إذاعتها ، عندما توقفت إذاعة دمشق عن البث عام 1945 ، حيث غنى ولحن على مدى ثلاث سنوات ، للعديد من المطربين والمطربات ، ليعود إلى إذاعة دمشق ، بعد توقف إذاعة القدس ، بسبب نكبة فلسطين ، عام 1948.
في دمشق ، بدأ نشاطه بالغناء ، واستمر في ذلك حتى عام 1953 ، عندما بدأ بالتركيز تدريجياً على التلحين ، إذ نالت أغنية ” دمعة على خد الزمن ” لتغريد محمد ، من ألحانه عام 1953 ، و كلمات الشاعر اللبناني محمد علي فتوح ، شهرة واسعة ، ما جعل شركة بيضافون اللبنانية تتفق معه ، على أن يلحن لسعاد محمد ، التي كانت قد أصبحت معروفة ، بسبب قيامها بدور البطولة في فيلمين سينمائيين ، ثلاث أغنيات ، من كلمات فتوح ، الذي تزوجته سعاد لاحقاً ، وهي : العمر يوم ، وين يا زمـان الوفا ، غريبة والزمن قاسي ، مع إضافة أغنية دمعة على خد الزمن . تسبب نجاح هذه الأغاني ، في تتويج هذه المجموعة بأغنية ” مظلومة يا ناس ” التي حققت شهرة غير مسبوقة.
لحن لكبار المطربين و المطربات ، وبلغ عدد ألحانه 365 لحناً ، متوجاً مسيرته بتلحين خمسة أعمال للسيدة فيروز ، وهي أولاً : سيد الهوى قمري ، في عام 1971 ، بطلب من عاصي رحباني ، ليشكل بذلك ، مع محمد عبد الوهاب ، حالة خاصة لملحنَين غير لبنانيَين تغني فيروز من ألحانهما ، و ليستكمل عقد مجموعته مع فيروز لاحقاً ، في عام 1996 ، بأربعة أعمال وهي : جاءت معذبتي ، ولي فؤاد ، لو تعلمين ، أحب من الأسماء.
كانت سعاد محمد ، المولودة في بيروت ، لأب مصري وأم لبنانية ، قد ركزت نشاطها الفني في دمشق ، ثم في حلب ، حيث ذاعت شهرتها محلياً. سافرت إلى القاهرة ، نهاية الأربعينات ، وغنت هناك ، فاسترعت انتباه المخرج محمود ذو الفقار ، الذي أسند إليها دور البطولة في فيلمٍ أنتج على عجل عام 1948 ، لتوثيق الأحداث في فلسطين ، ودور الجيش المصري فيها : ” فتاة من فلسطين “. لحن لها في الفيلم كبار الملحنين، أمثال محمد القصبجي ، ورياض السنباطي ، ورغم أنه لم ينجح كثيراً ، إلا أنه جسد نقطة انطلاق مسيرتها الفنية الثرية ، دون أن يحقق لها الشهرة المطلوبة.
عادت سعاد محمد إلى سورية بعد انتهاء التصوير ، لتستكمل مسيرتها الفنية ، قبل أن تدعى مجدداً إلى القاهرة ، لتقوم بدور البطولة في فيلم ” أنا وحدي ” عام 1952 ، في محاولة لإملاء الفراغ السينمائي ، الذي تسبب به ، انصراف السيدة أم كلثوم عن السينما ، اعتباراً من آخر أفلامها : فاطمة ، عام 1947 .
أدت سعاد محمد في فيلم ” أنا وحدي ” ، الذي عرض في شهر ديسمبر / كانون الأول 1952 ، عدة أغنيات ، اقتربت مما أدته أم كلثوم في أفلامها ، ومن تلك الأغاني مثلاً : ” أنا وحدي ” ، و” فتح الهوى الشباك” ، ما تسبب في ذيوع شهرتها ، نسبياً.
أتت أغنية ” مظلومة يا ناس ” ، كما رأينا ، تتويجاً لعدة أغنيات ذات طبيعة حزينة : دمعة على خد الزمن ، وين يا زمان الوفا ، غريبة والزمن قاسي ، توافقت في ذلك مع الطابع السائد للأغاني في تلك الفترة ، الذي كانت السينما الواقعية قد بدأت بتحريضه .
التحقق من تاريخ المنع من دخول مصر
يذكر الأستاذ صميم الشريف في دراسته : الأغنية العربية ، الصادرة في عام 1981 ، أن قرار المنع كان في عام 1952 ، فيما يذكر الأستاذ أحمد الواصل في مقال منشور له على الانترنت ، أن ذلك كان عام 1956.
بالمقابل يوجد تسجيلان لأغنية مظلومة يا ناس على شبكة الانترنت : الأول ينسب إلى حفلة على مسرح الباخرة سودان عام 1954 ، والثاني ينسب إلى حفلة على مسرح الباخرة سودان أيضاً في 16 كانون الثاني / يناير 1964. الغريب أن التسجيلان متطابقان!
إذا اعتبرنا أن قرار المنع صدر في عام 1952 ، حسب رأي الأستاذ صميم الشريف ، وفي ضوء علمنا أن إلغاءه كان في عام 1960 ، إبان الوحدة بين مصر وسورية ، فكيف غنت الأغنية على مسرح الباخرة سودان عام 1954 ، ما كان يتطلب دخولها إلى مصر؟ يرجح هذا أن التسجيل المتداول للأغنية على مسرح الباخرة سودان يعود إلى عام 1964 ، أي بعد صدور إلغاء المنع في عام 1960.
أما إذا أخذنا بعين الاعتبار رأي الأستاذ أحمد الواصل ، بأن المنع كان في عام 1956 ، فكيف تحدثت عن أنها متهومة في الأغنية المسجلة على مسرح الباخرة سودان في عام 1954 ، أي قبل قرار المنع؟
يؤكد هذا مرة أخرى أن التسجيل المتداول يعود إلى يناير عام 1964 ، في إحدى الحفلات التي كانت تقيمها الإذاعة المصرية على المسرح العائم ” الباخرة سودان ” ، وأنها أدت هذه الأغنية ، بعد التهمة التي ألصقت بها ، و صدور قرار منعها من دخول مصر ، ثم تمكنها من دخول مصر ، فجاء النص ليقول : بريئة ولكن متهومة ، أما جملة ” حقوقي ضايعة ومهضومة ” ، وهي جملة نادرة التداول في نصوص الأغاني أيضاً ، فيمكن التوقف عندها من مدخل آخر ، إذ أن سعاد مولودة لأب مصري ، ويحق لها الحصول على الجنسية المصرية ، ولعلها طلبت الحصول على الجنسية ، عندما قدمت إلى مصر لتصوير فيلمها الأول ، ثم ضاع الطلب بين مكاتب الوزارات المعنية ، ثم جاء منعها من دخول مصر ، فضاعت الحقوق ، وورد ذلك في نص الأغنية!
تاريخ نشرالأغنية
تبين من خلال البحث وجود روايات عديدة ، منها ما يؤكد أن الأغنية لحنت عام 1947 ، وهذا يعارضه واقع أن محمد محسن كان لايزال حينها في القدس ، أو أنها لحنت عام 1952 ، وهذا يعارضه واقع أن أغنية دمعة على خد الزمن ، التي لحنها محمد محسن لتغريد محمد أولاً ، سجلت في عام 1953 ، حسبما هو مثبت في إذاعة دمشق ، و كذلك في كتاب أصدره الأستاذ أحمد بوبس ، الباحث السوري ، عن حيـاة محمد محسن ، ما يعني أن مجموعة الأغاني التي سجلتها سعاد محمد لصالح شركة أسطوانات بارلوفون ، ومنها أغنية مظلومة ، كانت في وقت لاحق.
بالعودة إلى أغلفة الأسطوانات ، يتيبين أن الأغنية ظهرت أولاً من خلال شركة أسطوانات بارلوفون ، التابعة لشركة EMI ، و من إنتاج شركة صوت الشرق. بدأت بارلوفون عملها في الشرق عام 1957 ، أي أن ولادة الأغنية كانت بعد عام 1957، وهذا يتطابق مع ما توصلنا إليه أعلاه.
بني اللحن على مقام البيات الشجي ، و حفل ، في مشهده الأول ، بالتخافضات اللحنية ، المعبرة عن مشاعر التحسر الطاغية أمام الواقع الظالم الذي تعيشه ، ويمكن هنا التوقف عند التعبير الآسر ، في أدائها لكلمة ” مليانة ” ، أو ” دمع عيوني ” ، حيث ينبض الأداء بالحرقة والألم .
يتصاعد اللحن تدريجياً في المشهدين التاليين ، مع نمو مشاعر الاستنكار أمام الظلم ، فيعبر في المشهد الثاني ، أولاً ، عن التضاد بين نظرة الناس إلى الفنان الذي يعيش في نعيم ، وواقع حياته ، من خلال اعتماد مقام البيات الشوري ، مع استمرار سيطرة الأداء المعبر ، ليتصاعد اللحن أكثر ، عند المقارنة بين حياتها وحياة الطير المغرد ، كما هي تغرد ، ولكنها أسيرة الحرمان ، فيما يعيش الطير في حرية وأمان ، حيث بني اللحن على مقام الماهور ، وهو من فصيلة مقام الراست ، ولكنه يعمل فيه في الطبقات الحادة ، ونلاحظ أن محمد محسن نجح هنا في تحقيق التوافق بين التعبير ، ثنائي الأبعاد ، والتطريب ، فمنطقة الأصوات الحادة تسمح بالتعبير عن غناء الطير ، و تؤمن أيضاً التطريب اللازم في ختامات الأغاني ، لتحقيق الذروة اللحنية ، إذ أن هذا التصاعد اللحني ، يحرض استجابة الجمهور ، الذي يخرج عن الجو الحزين المسيطر منذ بداية الأغنية ، ليدخل في حالة من الطرب المتوهج ، قبل اختتام المشهد الأخير عند ” أما أنا أنا شفت الضنا ” بعودة عبر مقام البيات الشوري العاطفي ، وبتخافض لحني معبر عن التحسر ، في ختام سريع يضمن استمرار موجة الطرب الآسرة.الأغنية المنشورة من تسجيلات التلفزيون السوري
نص الأغنية:
مظلومة ياناس مظلومة وبريئة ولكن متهومة
مظلومة وكاسي مليانة من دمع عيوني وحيرانة
قضيت شبابي غلبانة لا رحمة ولا أم حنونة
محسودة ليه ما تقولوا على ايه وحقوقي ضايعة ومهضومة
مظلومة يا ناس مظلومة
عايشة في نعيم في عيون الناس والقلب بيشعلل ناره
واللي بحبه شرب الكاس وذاق عذابه ومراره
وبكيت عينيه ياحسرة عليه
والفرحة وياه محرومة وحقوقي ضايعة ومهضومة
مظلومة يا ناس مظلومة
الطير يغني يغني يغني على غصنه
عايش بأمان وحرية والنسمة بتردد لحنه
أنغام جميلة وشجية
أما أنا أنا شفت الضنا
طول عمري عايشة محرومة
مظلومة يا ناس مظلومة.