سألني: لماذا أسميتَ مشروعك الذي تعمل عليه منذ أكثر من ثلاثين سنة : ” كتاب الأغاني الثاني ” ؟ فأجبتُ : سأبين لك الأسباب .. ولكن لابد من تمهيد!
أولاً: كان كتاب الأغاني أول كتاب وصلنا في تأريخ الموسيقا العربية . من المهم أن نتوقف عند ما قاله عنه ابن خلدون ، أي بعد 400 سنة على نشره ، ما يدل على قيمته ، واستقرار أهميته عند كبار الباحثين والمؤرخين : ” إنّه ديوان العرب ، وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كلّ فنّ من فنون الشّعر والتّاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديبُ ويقفُ عندها، وأنّى له بها. “
ثانياً: هناك نقاط عديدة سأتوقف عندها في معرض إجابتي عن سؤالك ترتبط عموماً بالزمن وتموجاته: من المهم أولاً أن نتمعن في المدة التي استغرقتها إنجازه ، إذ أنها امتدت إلى خمسين سنة . وأن نتوقف ثانياً عند الحدث الذي حرض لدى الأصفهاني العمل على كتابه ، وهو حدث هام في تاريخ الموسيقى العربية ، إذ أنه تطلب القيام بأول عملية نقد فني شاملة في التاريخ ، وكان قد جرى في عصر هارون الرشيد ، أي قبل حوالي 100 سنة من عصر الأصفهاني ، وهذه نقطة ثالثة سأستفيد منها لاحقاً ، لتأتي نقطة رابعة ، وهي أن كتاب الأغاني تضمن ، في سياق توثيق نتاج ذلك الحدث ، الإحاطة بإبداعات حدثت قبل عصر الأصفهاني بما لايقل عن 300 سنة!
كانت البداية عندما شكل هارون الرشيد ، في زحمة إبداع تلك الفترة ، لجنة نقاد موسيقية لاختيار أهم الأغاني التي اختزنتها ذاكرة العرب حتى ذلك الزمان. كانت اللجنة مؤلفة من ثلاثة من كبار ملحني- مغني ذلك الزمان: إبراهيم الموصلي واسماعيل بن جامع وفليح بن العوراء ، ومن الملفت للنظر أن الرشيد أحسن اختيار أعضاء اللجنة ، إذ أن كلاً منهم كان يمثل تياراً مختلفاً في الغناء العربي، مما يدل على معرفة الرشيد بهذه التيارات ، و على أنه اراد أن تتمثل هذه التيارات جميعها في اللجنة للخروج بنتائج عادلة.
قامت اللجنة أولاً بحصر جميع الأغاني التي اختزنتها الذاكرة العربية حتى ذلك الزمان ، و بتحديد ملحنيها وشعرائها ، ثم قامت باختيار الأصوات (الأغاني) المائة الأجمل ، ثم اختارت منها العشرة الأكثر تميزاً , فالأصوات الثلاثة التي فاقت مجمل ما غني حتى ذلك العصر، وقدمتها للرشيد.
قام الأصفهاني ، وبعد مرور أكثر من 100 سنة إذاً ، بتتبع تلك الأغاني ، وتوثيق سير شعرائها وملحنيها ومغنيها ، على مدى خمسين عاماً ، ثم نشر ذلك في كتابه “الأغاني”. و من المهم أن ندقق في الأسباب التي دفعته لذلك!
قاطعني : ولكن لماذا شكل الرشيد تلك اللجنة في رأيك..؟
لاشك في أنه لم يشكلها عبثاً.. لعله أراد أن يختبر تقديره الشخصي لتلك الألحان التي اختارتها اللجنة نسبة لآراء المختصين ، أو للاستمتاع بسماعها إن لم يسبق له ذلك ، و لكنني أرجح أنه فعل ذلك أيضاً لكي يحرض وضع معايير لنقد نتاج صناعة الغناء ( كما سميت) وقد كانت رائجة تماماً في تلك الفترة.
تابع : إذاً ، ماهي في رأيك الأسباب التي دفعت الأصفهاني لتصنيف كتابه في 50 سنة ، وقد مرت على الأحداث التي وثق لها مئات من السنين ، كما مر على عمل تلك اللجنة ما لا يقل عن 100 سنة ، كما قلتَ!؟
قيل بأنه صنف كتابه تلبية لطلب الوزير المهلبي وزير المعز لدين الدولة البويهي ، وإن كنت أشك في أن يقضي الأصفهاني خمسين سنة من عمره لتلبية ذلك الطلب ، ناهيك عن أنه أهدى كتابه عند إنجازه لسيف الدولة الحمداني. طبعاً من المحتمل أنه بدأ تلبيةً لطلب ما ، كما كانت العادة ، ولكنه لاشك تحول بعد ذلك إلى مشروع شخصي ، وهذه أيضاً نقطة جديرة بالتمعن!
من المهم ، في هذا السياق ، أن نتوقف عند توقيت إطلاق عمله ، فلعله يدل على تلك الأسباب. كانت فترة غاب فيها الإبداع ، وهي في رأيي الفترة التي ينشط فيها التأريخ والتوثيق لعصر ناهض مضى ، عسى أن يأتي جيل جديد يجد أساساً لينطلق منه! هذا في رأيي مافعله الأصفهاني ، وقد شهد تخامد الإبداع في عصره ، وهذا ما فعله الفارابي ، المعاصر للأصفهاني ، في كتابه الموسوعي : كتاب الموسيقى الكبير .. وهذا تماماً كان الدافع لإطلاق مشروعي : كتاب الأغاني ..الثاني ، فنحن نمر في أحوال مشابهة ، غاب فيها الإبداع ، وأصبح من الملح أن نؤرخ ونوثق لعصر ناهض مضى ، عسى أن يأتي جيل جديد ، يجد أساساً لينطلق منه!
تابعتُ قائلاً : ولكن تبقى نقطة عالقة لم تُثرها سيكون لها أثرها في عملي لاحقاً: عندما اختار الرشيد ثلاثة من كبار الملحنين- المغنين لإجراء عملية الاختيار .. ألم يظلمهم ، إذ خرجت أعمالهم بالضرورة من عملية التقييم؟ على الأقل بالنسبة للمراكز الأولى.. وهذا يقود إلى سؤال تالٍ : ألم يظلم عصره أيضاً ؟! وللحديث صلة!
د. سعد الله آغا القلعة