تحدثت سابقاً عن الشيخ علي الدرويش الموسيقي و الباحث الموسيقي السوري ، الذي أرسى دعائم أصول التدريس والبحث والتوثيق في الموسيقى العربية ، وعاش يتنقل بين أقطار العالم العربي ، لأكثر من 30 عاماً ، معلماً وناشراً وموثقاً لأسسها.
ولكنني أتوقف اليوم عند آرائه السابقة لعصرها ، لتطوير موسيقانا ، والتي جاءت في سياق مقابلة ، أجرتها معه مجلة الناقد في القاهرة ، ونشرت يوم الإثنين 23 يناير / كانون الثاني 1928. في هذه المقابلة حدد الشيخ علي مواطن الضعف في موسيقانا ، و وضع أسساً واضحة لتطويرها ، كان منها مثلاً إكسابها التعبير عن المعاني ، و تشكيل ثنائيات بين الملحنين والشعراء ، ومن المفيد التذكير بأن هذا ماحصل فعلاً ، إذ تشكلت ثنائيات بين محمد القصبجي وأحمد رامي ، وكذلك بين زكريا أحمد وبيرم التونسي ، ومأمون الشناوي وفريد الأطرش ، ومحمد عبد الوهاب و أحمد شوقي ، ثم وحسين السيد ، والقائمة طويلة.. ولكن المفاجئ كان في دعوته لإدخال الهارموني عليها ! أدعوكم لقراءة هذا المقتطف من المقابلة:
بدأت المقابلة بمقدمة جاء فيها : وفد إلى مصر في العام الماضي موسيقار كبير من أهالي حلب ، مشهود له بالمقدرة والإحاطة بكل دقائق فن الموسيقا ، وله كتاب في هذا الفن ذو قيمة كبيرة .. ولمكانة الأستاذ وشهرته البعيدة في فنه سألناه حديثا باسم الناقد ، وهو المنشور هنا ..
وقد ورد في سياق المقابلة السؤال التالي:
ماهو النقص الذي تحسه في موسيقانا وما هو رأيك عنها عموما؟
فأجاب الشيخ علي:
إن موسيقانا أغنى موسيقا وجدت في العالم ، ولكن يا للأسف فإن القائمين بالأمر بها في الشرق لا يحسنون أداء مهمتهم :
• فأولا : الملحن الشرقي لا يضع موسيقاه بحيث تمثل المعنى الذي أراده الشاعر من شعره.
• ثانيا : عدم اختيار الشعراء البحور والأوزان الشعرية التي تناسب معنی وغرض القطعة التي ينظمونها ، فمثلا يجب أن يختار للمارش والنشيد بحر يخالف البحر الذي يختار للمنولوج أو الدور أو الموشح .
• ثالثا: اكتفاء الملحنين بما في رأسهم من المعلومات الضئيلة ، وبما يعرفون من النغمات القليلة ، وعدم بحثهم عن غيرها ، ولذلك تجد ألحانهم متشابهة ذات لون واحد ، مع اختلاف أغراضها ومراميها ومعانيها ، مع أن في الموسيقا أنغاما خاصة ومقامات خاصة لكل معنى ، فهناك أنغام تدفعك للحماس و الثورة ، كما تبكيك وتحزنك ، وتثير فيك الغضب ، أو الضحك أو الألم أو المرض وغيرها ، كما أن من بينها ما يدفعك للنشاط ، وأخرى تورثك النوم والكسل ، فإذا كان الملحن ملما بكل هذه الأنغام والمقامات ، استطاع أن يختار للحنه المقام الذي يناسب معناه.
نعم ، هناك كثيرون يعيبون علينا موسيقانا الشرقية ، ويقولون بفقرها ، وأنها لا تتعدى أن تكون لونا واحدا لا يفتأ أبدا يتكرر كل حين ، وإنني لأقول إن مثل هؤلاء لهم ملء الحق في حديثهم ، فهم أولا ليسوا على اطلاع وثيق بالموسيقا كعلم وفن ، حتى يحكموا عليها حكما صادقا ، ومن ناحية أخرى فإن الملحنين لم يعطوهم من الموسيقا إلا قشورها ،ولم يتعبوا أنفسهم في تقديم ثمر جني إليهم ، فلهم العذر إذا ظنوا أن هذه الموسيقا الخاملة التي لا تتغير ولا تتبدل هي الموسيقا الشرقية .
وعلى ذلك نستطيع أن نقول إن العيب ليس عيب الموسيقا نفسها ولكن عيب المشتغلين بها ، وفي مقدمتهم جماعة الملحنين . حتى لقد صارت لفظة ” موسیقي” محتقرة مهانة ، وهي أولى بكل إكرام واحترام.
المحرر: ما رأيك إذا في الإصلاحات التي يجب أن ندخلها على الموسيقا الشرقية ؟
أولاً : تلك مهمة الشاعر والملحن قبل كل شيء ، عليهما قبل أن يبدآ العمل ،أن يجتمعا سويا ، فيفهم كل منهما غرض الآخر ، وما يرمي إليه ، ويختار الوزن الشعري الذي يضع فيه الشاعر أبياته ، ثم على هذا أن يفهم الملحن الخيال الذي توهمه وهو يكتب القطعة ، وهو ما لا يمكن أن يفهمه الملحن من خلال الشعر ، حتى تأتي الموسيقا مطابقة تماما لخيال الشاعر .
ثانياً: أعتقد أن إدخال قليل جدا منن ” الهارموني ” على القواعد الموسيقية الشرقية يكسبها جدة وطلاوة ، على ألا نكثر منها لأن لكل قوم روحهم الخاصة بهم وذوقهم .
ثالثاً: في استطاعتنا أن نضع بهذه الموسيقا الشرقية التي يقولون إنها فقيرة ، قطعا صامتة لا كلام لها ، تمثل معان خاصة ومواضيع خاصة . ففي الاستطاعة مثلا أن نؤلف قطعة نسميها ” الغابة” . في هذه القطعة تسمع أصوات البلابل والطيور تغرد وتسمع حفيف الرياح وانسياب المياه في الجداول ، بل وتسمع أيضا زئير الوحوش على اختلاف أنواعها. كل هذا ممكن إذا وجد الملحن الكفء القدير الملم بالموسيقا إلماما تاما ، وعلى هذا أكرر كلمتي من أن موسيقانا غنية ملأى بالدرر، ولكن أين لنا الغواص الماهر الذي يخرج لنا هذه اللآلئ الغالية