مقدمة :
يطرح هذا الخبر من كتاب الأغاني ، الذي ورد ضمن أخبار أبي العتاهية ، في الجزء الرابع من الكتاب ، و في البعد الموسيقي المقارن ، و إلى جانب الوقوف عند جرأة أبي العتاهية ، وتأثير كلماته ذات العِبَر في هارون الرشيد ، أسئلة كثيرة ، حول مدى شيوع ظاهرة إعادة توظيف الألحان في زمن هارون الرشيد ، وهي ظاهرة شائعة الآن ، و حول مدى شيوع اللغة العامية في غناء تلك الفترة ، على مستوى عموم الناس ، إلى جانب سيطرة اللغة الفصحى والشعر في غناء الخاصة ، حسبما يؤكد كتاب الأغاني ، وهذا كان صحيحاً أيضاً في غناء القرن العشرين ، إذ تجاورت العامية والفصحى .. لتغيب الفصحى عن غناء اليوم!
قال أبو الفرج :
حدثني الصولي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا محمد بن صالح العدوي قال أخبرني أبو العتاهية قال: كان الرشيد مما يعجبه غناء الملاّحين في الزلاّلات إذا ركبها، وكان يتأذّى بفساد كلامهم ولحنهم، فقال: قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعراً يغنون فيه. قيل له: ليس أحد أقدر على هذا من أبي العتاهية، وهو في الحبس. قال: فوجه إليّ الرشيد: قل شعراً حتى أسمعه منهم، ولم يأمر بإطلاقي؛ فغاظني ذلك فقلت: والله لأقولن شعراً يحزنه ولايسر به، فعملت شعراً ودفعته إلى من حفّظه الملاّحين. فلما ركب الحراقة سمعه، وهو:
خانك الطرف الطموح أيها القلب الجموح
لدواعي الخير والشر دنو ونزوح
هل لمطلوبٍ بذنبٍ توبةٌ منه نصوح
كيف إصلاح قلوبٍ إّنما هن قروح
أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح
فإذا المستور مّنا بين ثوبيه نضوح
كم رأينا من عزيزٍ طويت عنه الكشوح
صاح منه برحيلٍ صائح الدهر الصدوح
موت بعض الناس في الأرض على قومٍ فتوح
سيصير المرء يوماً جسداً ما فيه روح
بين عيني كلّ حي علم الموت يلوح
كّلنا في غفلةٍ والموت يغدو ويروح
لبني الدنيا من الدن يا غبوقٌ وصبوح
رحن في الوشى وأصبحن عليهن المسوح
كلّن طاحٍ من الدهر له يوم نطوح
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح
لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح
قال: فلما سمع ذلك الرشيد جعل يبكي وينتحب، وكان الرشيد من أغزر الناس دموعاً في وقت الموعظة، وأشدهم عسفاً في وقت الغضب والغلظة. فلما رأى الفضل بن الربيع كثرة بكائه، أومأ إلى الملاّحين أن يسكتوا.