سألني : ركزتَ في حديثك السابق عن الصدام بين ستة تيارات موسيقية ، حان الوقت الآن لكي تتقارب ، على أنها جميعها كانت ذات قيمة ، كما تكرر أنك تركز في عملك في البحث والتحليل على الموسيقى ذات القيمة ، فماهي تلك الموسيقى .. ذات القيمة؟
العمل الموسيقي أو الغنائي يحمل قيماً عديدة!
لاشك في أن أي عمل موسيقي أو غنائي ينشر ويصل للناس ، هو نتيجة عملية إنتاجية ، تتشكل ، في حالة الغناء مثلاً ، وهي الحالة الأكثر حضوراً في عالمنا العربي ، من جهد المؤلف والملحن والمغني ، وكلفة التوزيع والتسجيل ، ومن ثم النشر ، عبر حامل فيزيائي ، قد يكون أسطوانة أو قرصاً مغناطيسياً ، يباع ، نتيجة عملية التسويق ، فيشتريه الناس. تكتسب تلك العملية الانتاجية مردودها الاقتصادي أحياناً ، من الإعلانات ، التي تضم إليها أو تحيط بها.
يؤكد هذا أن لأي عمل موسيقي أو غنائي قيمة اقتصادية، بغض النظر عن مضمون النص أو اللحن.
بالمقابل ، يفترض أن يحمل كل عمل موسيقي أو غنائي في خلاياه قيماً أخرى ، جمالية وأخلاقية ، أراد المؤلف الموسيقي أو الشاعر والملحن التعبير عنها ، كما يمكن أن يكتسب قيماً أخرى ، عاطفية أو وطنية أو اجتماعية ، وحتى سياسية ، حسب المضامين التي يحملها ، إن كان غنائياً ، خاصة إن تمكن الملحن من إبراز تلك المضامين لحنياً ، واستطاع المؤدي إيصالها للناس ، محملة بعواطف وأحاسيس تعبر عنها.
القيمة الاقتصادية موجودة دائماً ، أما القيمة الجمالية .. فهي شرطٌ غير كافٍ
التيارات التي تحدثت عنها تحمل في خلاياها على الأقل ، وإضافة للقيمة الاقتصادية ، قيمة جمالية على الأقل ، وكلما زادت القيم التي يحملها العمل الموسيقي أو الغنائي ، كلما عظمت قيمته العامة . من المؤسف أن التيار المسيطر الآن على الغناء العربي ، يركز على القيمة الاقتصادية فقط ، إذ يستهدف الغرائز أساساً ، محملاً مضامينه على موسيقى ، لا تحمل ، على الغالب ، أي قيمة جمالية على الأقل ، ناهيك عن خلوه عن أي قيمة أخلاقية أو وطنية أو اجتماعية أو حتى سياسية بالمعنى العريض للسياسة ، ولو حاول في بعض الأحيان إكساب عمله قيمة عاطفية أو اجتماعية أو وطنية أو أخلاقية ، تجده لا يوفق ، لأن الألحان التي لا تحمل أي قيمة جمالية ، لا يمكنها أن تحمل إلى الناس قيماً أخرى ، عليها أن تصل إلى العقل ، وليس فقط إلى الوجدان. بالتالي من المهم القول بأن القيمة الاقتصادية موجودة دائماً ، ولا نستطيع أبداً أن نعتبرها معياراً للقيمة الحقيقية ، كما أن القيمة الجمالية شرطٌ لازمٌ لاكتساب العمل قيمة حقيقية ، ولكنه غير كافٍ!
القيمة العلمية!
بالنسبة لي أنا أهتم ، في إطار مسار كشف مكامن الإبداع في الموسيقى العربية ، الذي أعمل عليه ، بالأعمال التي تحمل على الأقل قيمة جمالية ، كما أسلفت ، محاولاً التدقيق في أي قيمة عاطفية أو أخلاقية أو وطنية أو اجتماعية أو سياسية قد تحملها ، ولكنني بالنتيجة لا أقدم على تحليل أي عمل ، وعرضه للناس ، إلا إن كان يتضمن قيمة أخرى ، قلما أشير إليها ، رغم أنها الأهم في نظري ، وهي القيمة العلمية!
نعم ، في الواقع يكتسب العمل الموسيقي أو الغنائي قيمة علمية ، عندما تحمل خلايا النص واللحن ، عناصر قابلة للمقارنة مع عناصر سابقة لها تاريخياً ، ما يسمح باكتشاف نقلات نوعية ، ومسارات جديدة ، في أعمال ملحن محدد ، سواء أكان ذلك على مستوى القالب ، أو المقام الموسيقي وأساليب الانتقال بين المقامات ، أو في مجال التعبير عن المضامين ، على مستوى الكلمات ، أو الجمل ، أو على مستوى الجو العام ، وفي أساليب يصعب حصرها. يستلزم هذا الأمر تتبع تلك النقلات النوعية الجديدة ، في أعمال لاحقة ، لملحنين آخرين ، للتأكد إن كانت أسست لمدرسة جديدة ، أو غابت فلم ينتبه إليها أحد.
طبعاً ، يقتضي هذا مني ، السعي لحصر جميع النقلات النوعية التي تمت في الموسيقى العربية ، وذلك من خلال تحليل خلايا تلك الألحان ، من الناحية العلمية ، وتصنيفها ، وإرجاع كل نقلة نوعية لصاحبها ، ثم تتبع تطورها عند الملحن ذاته ، أو عند آخرين ، يتتبعون أعماله ، ويولِّدون على نسقها ، ومن أجل هذا كنتُ وضعتُ نظاماً للمعلومات ، ليعينني على أعمال البحث والمقارنة!
لابد من قيمة علمية ، ولو في بعض أعماله ، لكي يجد الملحن مكانه بين الكبار!
قد يقال بأن هذه القيمة العلمية لا ينتبه إليها الناس ، وهذا محتمل ، فكلٌّ يدرك حسب حدود معرفته واهتمامه ، ولكن الأهم ، أن كبار الملحنين ، كانوا يعرفون تلك القيمة العلمية ، ويعملون عليها في تنافسهم المحموم ، وإلا فلماذا عنونتُ حلقتي حول أغنية “حانة الأقدار” للسيدة أم كلثوم ، من نظم طاهر أبو فاشا ، ولحن محمد الموجي ، بالقول بأنها حملت لنا إعجازاً هندسياً متكاملاً ، نصاً ولحناً؟ طبعاً أتى هذا في أول تعاون للموجي مع أم كلثوم خارج إطار الأغاني الوطنية ، ما كان يشكل تحدياً كبيراً ، كان لابد من مواجهته بالقيمة العلمية أيضاً ، وليس بالقيم الأخرى الجمالية والصوفية فقط. ثم لماذا فعل حليم الرومي ما فعل ، في لحنه ” غلب الوجد عليه فبكى ” ، كما بينتُ في مقالي عنه ، وهو اللحن الذي قدمه لمسابقة ، كان أقامها المجمع العربي للموسيقى عام 1972 ، ليفوز بالجائزة! ناهيك عن عشرات الأعمال لمحمد عبد الوهاب والسنباطي وفريد الأطرش ومحمد القصبجي وغيرهم ، التي حمل كلٌ منها قيمة علمية متفردة ، علماً بأنني أعطيت أمثلتي من خلال الموجي والرومي ، لأؤكد على أن هذه القيمة العلمية ، كانت المبتغى لكل ملحن جاد .. وإن كان منهم من أفلح .. فأصبح من الكبار .. ومنهم من بقي يتابع .. ويتحسر!