عاشت الموسيقى العربية ، فيما مضى من الزمان ، حالة صدامٍ مرٍّ بين ستة تيارات موسيقية رئيسية جدية ذات قيمة ، اندرجت عموماً تحت عناوين الأصالة والمعاصرة والحداثة ، وتمايزت حسب درجة تمسكها بالتراث وعرضه كما هو ، أو محاولة تطويره ، من داخله ، أو من خارجه ، أو رفضها له، وقد وجد هذا الصدام صداه لدى المتابعين. بالمقابل كانت المساحة المتاحة لأي تيار آخر تعوزه القيمة ، محدودة جداً. ولكن هذا الواقع تغير ، و لم يعد ترف ذلك الصدام متاحاً كما كان!
نعم ، لقد شهد القرن العشرون تشكل تيارات موسيقية متعددة ، بفعل ماحمله من تقنيات وأجواء موسيقية وافدة. اندرجت تلك التيارات الموسيقية ذات القيمة في محورين : محور الداعمين للتراث ، و محور الداعمين للموسيقى الكلاسيكية الغربية!
محوران متصادمان!
تشكل المحور الأول من أربعة تيارات ، تداخلت في بعض الأحيان ، وهي :
- تيار المتمسكين بالتراث ، المتجسد فيما حفظته أفئدة المطربين من نتاجات قرون مضت ، بما في ذلك نتاج نهايات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين وامتداداتها ، كما هو ، لا يرضون عنه بديلاً ، مع قبول إكسابه ملامح معاصرة.
- تيار المتمسكين بنتاج فترة النهضة التي عاشتها الموسيقى العربية في القرن العشرين ، الذي تفاعل مع عصره ، وما حمله من عناصر موسيقية وافدة ، وأبدعته قرائح كبار الشعراء والملحنين ، و وثقته لنا أصوات كبار المطربين ، وحفظته لنا تقنيات العصر الجديدة ، مع قبول استكمال تطويره في سياق المسارات التي رسمها مبدعوه.
- تيار المدافعين عن التراث ، ولكن مع تقديمه بأسلوب غنائي أكثر معاصرة ، باعتماد الغناء الجماعي ، أو بتضمينه تقنيات غنائية ، يتم اختيارها من تقنيات غناء الغرب.
- تيار المقتنعين بأهمية التراث ، ولكن مع الدفع باتجاه تطويره ، نحو إكسابه أبعاداً موسيقية جديدة ، في جرعة مكثفة تقترب به من نموذج موسيقى الغرب.
بالمقابل كان هناك تياران متداخلان في المحور الثاني :
- تيار دارسي قيادة الأوركسترا ، المتمسكين بالموسيقى الكلاسيكية الغربية ، بحسبان أنها موسيقى عالمية ، لا يرضون عنها بديلاً ، ويركزون على عرض نتاجها بكثافة ، لتشكيل جمهور من النخبة يدعمها.
- تيار المؤلفين الموسيقيين الدارسين لتلك الموسيقى ، والساعين إلى وضع مؤلفاتهم بالاعتماد على أساليبها وقواعدها ، في محاولة لتقريب أعمالهم من النموذج” العالمي” ، مع توظيف جمل لحنية تراثية سائدة ، ترسم جسوراً مع الجمهور العام ، وتعطي أبعاداً ” قومية ” لنتاجهم!
كانت هذه التيارات ، في مجملها ، تتقارب أحياناً ، وتتباعد أحياناً أخرى ، حسب تطور الأجواء العامة في العالم العربي ، و دعم أصحاب القرار لتيار محدد دون آخر ، فيما تركز الصدام بين تيارين أساسيين هما الأكبر : المتمسكون بتراث فترة النهضة في القرن العشرين ، و بالتطور الذي مكنه من التفاعل مع عصره ، خاصة أن كباره تفاعلوا مع الأساليب الأوركسترالية ، وأدمجوها في نتاجهم ، كما تابعنا في مقدمات الأغاني التي قدمها محمد عبد الوهاب و فريد الأطرش ، وفي بعض أعمال الأخوين رحباني ، والرافضون له ، بحجة تركيزه على الغناء ، و افتقاده للأدوات الأساسية التي تطورت في موسيقى الغرب ، مع طرح الموسيقى الكلاسيكية الغربية كبديل صالح!
القرن الحادي والعشرون يحمل ظاهرة جديدة حاصرت التيارات السائدة
كان ترف التصادم بين هذه التيارات متاحاً فيما مضى ، إذ حظي كل تيار بفضائه الخاص وبناشريه ومريديه وجمهوره ، ولكن دخولنا القرن الحادي والعشرين أنتج ظاهرة جديدة ، إذ أطبق على تلك الفضاءات المتصادمة والمتداخلة حصارٌ ، جعل المساحة المتاحة لكل منها تتقلص كل يوم ، ليحتل المكان فضاءٌ جديد ، وفد إلينا ، ووجد ارتساماته عند ملحنين و مغنين ، تركزت عليهم الأضواء ، و عند شريحة واسعة من شبابنا ، أساسه مخاطبة الغرائز ، وعنوانه التقليد والتكرار وتفريغ الطاقات ، وهدفه الربح ، دون النظر إلى النتائج السلبية التي يؤسس لها ، على الصعد الجمالية والأخلاقية والاجتماعية والوجدانية والفنية ، طبعاً إن تجاوزنا أية أهداف أخرى محتملة!
الفرصة الأخيرة : تشكيل فضاء جامع!
لقد حان الوقت لكي يدرك الجميع أهمية استعادة تلك التيارات المتصادمة لمكانتها ، من خلال التوافق فيما بين داعميها على ركيزتين ، أولاً : القاسم المشترك الذي يجمع تلك التيارات ، وهو الجدية والقيمة والإتقان ، إتقان تقديم التراث كما هو ، وإتقان تطويره من داخله ، ومن خارجه ، وإتقان تقديم أي نتاج جدي وافد ، وثانياً : اعتماد مفهوم الانفتاح على الآخر ذي القيمة ، والتفاعل الإيجابي مع نتاجه ، استماعاً ونقداً وتأثراً ، بغرض التركيز على حفظ مرجعية ذلك التراث ، و التوافق على تطويره ، سواء أكان هذا من داخله ، أي بالاعتماد على عناصره كما تطورت في فترة النهضة التي عاشتها الموسيقى في القرن العشرين ، أم من خارجه ، بالاعتماد على عناصر وافدة من موسيقات أخرى ، تلائمه!
إنني أرى في ذلك التوافق ، فرصة أخيرة لتجميع القوى ، أمام هذا السيل الجارف من الأعمال ، التي تعوزها القيم الجمالية والاجتماعية والفنية والأخلاقية ، و يعوزها الإتقان و الجدية ، ولتطوير حقيقي للموسيقى العربية ، نحن بأمس الحاجة إليه ، لأن إزالة الحدود بين الفضاءات التي تتقلص ، ستولد مع مرور الوقت فضاء جديداً ذا قيمة ، يستطيع أن يحجز له مساحة مقبولة ، إلى جانب السائد ، وأن يستعيد تقاليد الإتقان ، في الإبداع .. وفي الاستماع!
د. سعد الله آغا القلعة