أتوقف اليوم ، عند موال هات يازمان ، الذي استكمل فيه الأستاذ فريد الأطرش ، التغيرات التي طرأت على الموال ، إذ حوَّله إلى أغنية ملحنة تماماً ، كما سنرى .
يأتي نشر هذا الموال ، بعد ثلاث نشرات متتالية ، كنتُ خصصتها لقالب الموال ، وهو من أهم قوالب الغناء العربي ، التي تعتمد أساساً على الارتجال ، و تسمح بالتالي للمطرب أن يبرز قدرات صوته ، من حيث امتداد المساحة ، و التحكم في أداء التعرجات اللحنية الحادة ، إضافة إلى تمكينه من عرض خبرته ، في استعراض مسالك المقامات الموسيقية ، و في استكشاف مجالات تلوينها.
عرَّفتُ في النشرات السابقة بالموال ، وشرحتُ باختصار أشكاله الشعرية ، كما توقفتُ عند أغراضه التي توزعت بين الغزل ، والبوح ، والعتاب ، والتعبير عن حال المحب ، و المدح ، والفخر ، والحنين ، وصولاً إلى إسداء النصيحة ، وطلب التوبة ، والوصف ، والهجاء ، واستخلاص الحكمة.
قمتُ أيضاً بتعداد أشكال الموال ، إذ اعتمدتْ على عدد فردي من الأبيات ، كالموال الخماسي ( الأعرج) ، والسباعي ( الزهيري ) ، و التساعي، مع تتال معين للقوافي ، فصَّلتُ في تبيانه في كل حالة ، مع التأكيد على أن أساس تلك القوافي يقوم على تشكيلها من كلمات متماثلة ، بمعانٍ مختلفة ، فيما يسمى الجناس الكامل ، وبينتُ أن هذه الشروط تم تخفيفها في مصر ، حيث اكتفي بالجناس الناقص ، الذي يحتم التمسك بالروي ( الجزء الأخير من الكلمة ) فقط ، كما أصبح من الممكن أن يأتي الموال ، بعدد زوجي من الشطرات.
عرضت أولاً لموّالين للأستاذ محمد خيري ، أدّاهما ارتجالاً في أسلوبين مختلفين ، وفق ما هو معمول به في حلب ، ثم لموالٍ للأستاذ محمد عبد الوهاب ، كان قد حقق النقلة الأساسية من الارتجال إلى التلحين ، عندما بدأ تقديم المواويل في سياق الأفلام ، بعد إلارهاصات التي رافقت ولادة الأسطوانة ، وبينتُ أن عبد الوهاب كان يلجأ لتسجيل الموال ، لصالح الفيلم ، في المدة المتاحة له في سياق الفيلم ، ثم يعيد تسجيله على أسطوانة ، لصالح شركة الأسطوانات ، في المدة المتاحة في الأسطوانة ، وهي أطول ، باللحن ذاته الذي ورد في الفيلم ، مع تمهيدات و امتدادات و تنويعات ، لا تسمح بها نسخة الفيلم ، ما جعل الموّال يتحول إلى عمل ملحن ، وإن كان لا يزال يقدم في الإطار التقليدي للموال ، من حيث الاسترسال ، و مرافقة الآلات الموسيقية له وفق الأسلوب القديم.
وبما أننا نعبر في هذه السنوات فترة صعبة ، يعيشها عالمنا العربي منذ سنوات ، و يحدونا الأمل كل يوم بأن تنتهي ، وأن نعبر إلى غد أفضل ، فقد اخترت أن أتوقف اليوم عند عمل غنائي لفريد الأطرش ، يصور حال عالمنا العربي اليوم ، في محنته ، وفي آماله : موال هات يا زمان من كلمات بديع خيري ، وكان جاء في سياق فيلم جمال ودلال عام 1945 ، واستكمل الأستاذ فريد الأطرش فيه ، التغيرات التي طرأت على الموال ، إذ حوَّله إلى أغنية ملحنة تماماً ، كما سنرى .
يروي فيلم جمال ودلال قصة فريد ، الذي يعيش مع عشيرته ، في العمل مع السياح ، ويحقق لدماثته معهم نجاحاً كبيراً ، ما يُثير غيرة منافسيه. تلاحظ محبة له، وهي الراقصة بهية، أنه يهتم بفتاة من السياح في المنطقة، فتُرتب جريمة قتل يُتّهم بها، وتغريه بالهرب إلى أبعد البلاد العربية عن مصر ، أي إلى المغرب. وهناك تبتز أمواله التي أخذها معه ، إلى أن تستنزفها. يكتشف ذلك ، فيتركها ضائعاً لا يعرف إلى أين يذهب ، فيعبر الجزائر ويصل إلى تونس ، ليأتي الموال في سياق هذا الواقع المأساوي ، فيغيِّره!
كان هذا الموال معاصراً لزمانه ، إذ جاء في سياق أول فيلم يشارك فيه فريد ، بعد رحيل أسمهان عن هذه الدنيا عام 1944 ، وقد عبَّر فريد ، في مشاهد الضياع التي رافقت أداءه للموال ، عن حالة الألم التي عاشها ، بعد فاجعة وفاة شقيقته أسمهان ، وعن حزنه أيضاً على ضياع مسيرة فنية مشتركة ، كان من الممكن لها لو استمرت ، أن تغني مسيرة الموسيقى العربية بروح جديدة ، و لكنه عبَّر كذلك فيه ، ومباشرة ، عن الأمل الذي سيطر على مشاعره ، مع انتشار الأفكار العروبية الجامعة ، لتعم مشرق العالم العربي و مغربه ، مع تأسيس الجامعة العربية عام 1945 ، فاكتسب الموال بإجمال ذلك ، أهميته التاريخية ، إذ عبَّر نصاً ولحناً وأداءً ، عن مشاعر يتنازعها الضياع والأمل ، في ثوان ، ووثق ، في الوقت ذاته ، الواقع المأساوي الذي عاشه فريد ، و الواقع السياسي المضمخ بالأمل في زمانه!
هذا الموال معاصرٌ اليوم أيضاً ، إذ أن عالمنا العربي ، يعيش حالياً فترة ضياع عصيبة في تاريخه ، وهو في حاجة إلى تلك المشاعر الواثقة ، المضمخة بالأمل في وقفة جديدة ، و التي اختصرها بديع خيري بنصه ، وفريد بلحنه وأدائه ، والمخرج استيفان روستي بإخراجه:
نص الموال
هات يا زمان.. كل ما عندك من الأهوال..
تلقاني صابر ولا يوم أشكي سوء الحال..
إحنا ولاد العروبة بختنا لو مال..
مسيره يوم ينعدل وتعود ليالينا..
ونحتكم في الزمان اللي احتكم فينا..
والشرق له وحدته.. في الشدة تحمينا..
استطاع فريد أن يعبر لحنياً ، وبصرياً ، بتدخل من المخرج استيفان روستي ، عن التضاد بين تلك المشاعر ، فابتدأ بمقدمة موسيقية للموال ، على مقام النهاوند ، مرسخاً إياه كعمل ملحن بالكامل ، ومقترباً في نفس الوقت ، من أجواء رثائية : أيها النائم لأسمهان ، التي غنتها في آخر أفلامها ، قبل غيابها الأبدي ، مذكراً بتلك المأساة ، فيما نلاحظ أنه عندما يصل في الموال إلى : إحنا ولاد العروبة حظنا لو مال * مسيره يوم ينعدل ، فإنه يقف معبراً عن ولادة الأمل ، مع تصاعد اللحن!
يبدأ الموال إذاً بمقدمة موسيقية على مقام النهاوند ، يؤديها الناي أولاً ، لتدخل الفرقة الموسيقية في لحن مرسل هادئ حزين ، ممهدة لدخول فريد بالغناء عند : هات يا زمان ، على مقام النهاوند . ينتقل عند : مسيره يوم ، إلى مقام البيات ، ليختتم الجملة على مقام الراست ، عند : تعود ليالينا. تدخل الفرقة الموسيقية لاحقاً في لحن موقَّع ، على مقام البيات ، يؤكد مجدداً تحول الموال إلى أغنية ملحنة ، مع الحفاظ على أسلوب الغنائي التقليدي عند : ونحتكم في الزمان اللي احتكم فينا * والشرق له وحدته ، ليختتم الموال عند : في الشدة تحمينا ، بعودة إلى مقام النهاوند.
يوحي هذا الموال ، بأن الأستاذ فريد الأطرش ، وجد في هذا الأمل الجديد ، بلسماً لجراحه ، بعد رحيل شقيقته.