التداخل بين عالمي الإنشاد والغناء
على عكس عالمنا اليوم ، لم يكن العالمان الديني والدنيوي ، في العصور الوسيطة ، التي أنهتها الحرب العالمية الأولى ، ممثلَين بالإنشاد و الغناء ، متباعدين ، و لم تكن الحدود الفاصلة بينهما ، على مستوى النص واللحن والأداء ، واضحة ، إذ يجمعهما أداء القصائد والموشحات ، فالملحن هو هو ، والأصوات هي هي ، لهذا العالم أوذاك ، مع اختلاف المناسبات والأغراض. ولذا فقد حافظ الملحنون ، حتى بعيد الحرب الأولى ، على لقب الشيخ ، فكان الشيخ لقب الشيخ زكريا أحمد ، و الشيخ سيد درويش ، و الشيخ علي الدرويش ، و الشيخ سلامة حجازي ، و الشيخ أحمد أبو خليل القباني ، و الشيخ سيد الصفتي ، و الشيخ محمود صبح ، والشيخ عمر البطش ، و الشيخ درويش الحريري ، و الشيخ خميس الترنان ، والشيخ صبري مدلل ، والشيخ أحمد الزيتوني ، والشيخ أبو العلا محمد ، والشيخ العربي بن صاري ، و الملا عثمان الموصلي .. والقائمة لا تنتهي.
أمكن هذا ، لأن لقب الشيخ ، في العالم الديني ، لم يكن محصوراً برجل الدين العالم الفقيه ، بل كان شائع الإطلاق ، على كل من له علاقة بالعالم الديني ، و بلغ مرتبة عالية في أحد مساراته ، ومن ذلك ، مثلاً ، إطلاق لقب الشيخ على المرتلين ، كالشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى اسماعيل ، والشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد … وهم طبعاً لم يكونوا من الفقهاء.
دورٌ كبير في الحفاظ على الغناء العربي
كان لهذا التداخل بين العالمين دورٌ كبير في الحفاظ على الغناء العربي المتقن وأصوله ، في العصورٍ الوسيطة ، على مستوى الحفظ و التعليم والنشر. كانت حافظة العالم الدنيوي ضعيفة ، إذ أنه كان ، و لا يزال ، يبحث دائماً عن ألحان جديدة ، لإرضاء متطلبات السوق ، متخلياً بالتدريج عن الألحان القديمة ، في وقت لم تكن فيه أسطوانات أو إذاعات تحفظها. بالمقابل ، حافظ عالم الإنشاد الديني على الألحان القديمة ، وكانت التكايا والزوايا ، وهي الأماكن التي يقيم فيها شيوخ الصوفية شعائرهم ، ومنها الفواصل والتواشيح الدينية ، تنظم تلك الألحان ، بعد تعديل كلماتها ، حيث يلزم ، إلى اللغة العربية الفصحى ، في فواصل إنشادية ، تمتد لأكثر من ساعة أحياناً ، يحفظها المريدون عن ظهر قلب ، و تدرجها في طقوسها ، وفق نظام دقيق ، يتكرر كل عام.
مرجعية تتشكل!
مع الوقت ، تحولت تلك التكايا والزوايا ، لتصبح الفضاء المرجعي والمعياري ، الذي يكوِّن الملحنين ، ويعلمهم أصول الموسيقى العربية المتقنة ، و يدفعهم لاختزان رصيدها ، من جهة ، و أسس التجويد القرآني ، اللازم لضمان انسجام الألفاظ ، مع الألحان ، في مسار الإنشاد ، من جهة أخرى. كان الإنشاد الديني إذاً هو الذي حافظ الألحان ، و على اللغة العربية الفصحى في عالمي الإنشاد والغناء ، في العصور الوسيطة ، مقابل شيوع توظيف اللهجات المحكية في الغناء الدنيوي ، مشكلاً مرجعية أساسية ، سمحت للغناء الدنيوي لاحقاً ، أن يستند إليها ، عندما عاد إلى اللغة العربية الفصحى ، في انطلاقته الجديدة ، بعد الحرب الأولى ، وتفكك الإمبراطورية العثمانية.
بعد الحرب العالمية الأولى : تباعد أنتج خللاً في التوازن!
ترافقت هذه العودة ، مع تحول عهدة التعليم ، من التكايا والزوايا ، إلى المعاهد الموسيقية ، التي افتتحتها الدول التي استقلت تدريجياً بعد الحرب الأولى ، و مع تحول عهدة الحفظ ، إلى تقنيات التسجيل الجديدة والتدوين ، وعهدة النشر ، إلى الأسطوانات والإذاعات والمحطات الفضائية. مع الوقت ، تباعد العالمان بالتدريج ، وغاب لقب الشيخ من أمام أسماء الملحنين ، واتجهت الموسيقى العربية نحو مسارات جديدة، فيها الكثير من التطور ، ومن الابتعاد عن المرجعية ، ما ولد خللاً متزايداً في التوازن ، تفاقم مع غياب ذلك التطور ، في ختامات القرن العشرين ، وأنتج أعمالاً غنائية لا تمت للأصل بصلة ، فأصبحت الموسيقى العربية المتقنة ، ولكي تستعيد توازنها ، وتحقق انطلاقة جديدة ، في حاجة ماسة إلى مرجعية جديدة ، تضم المرجعية الأولى ، وما حققته النهضة في القرن العشرين ، لابد من تعريفها ، ولهذا حديثٌ آخر!
نتابع الآن هذا التوشيح الديني من ألحان الشيخ زكريا أحمد و أدائه مع ليلى مراد ، وقد ظهر فيه الشيخ زكريا بنفسه في فيلم ليلى بنت الفقراء.