لعلنا لم نعرف في تاريخ الغناء العربي شخصيةً أثارت الجدل كما أسمهان: جدلٌ حول سنة ولادتها ، فهل ولدت في يوم 25 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1912 ، حسب ويكيبيديا باللغة الإنجليزية وإحدى نسخها باللغة العربية ، وهو التاريخ الأكثر تداولاً ، أم في عام 1917 ، حسب نسخة ثانية لويكيبيديا ، أم في عام 1918 ، حسب مجلة المصور في حينه ، ووفق دراستي الموثقة حول الموضوع ، وجدلٌ ثانٍ حول أسباب رحيلها المفاجئ ، في ذلك الحادث الشهير ، وهل كانت أسباباً سياسية أم عاطفية أم فنية ، أم أنه حادث كما أي حادث ، و جدلٌ ثالثٌ حول دورها السياسي ، الذي كان محورياً في أحداث الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الثانية ، و جدل ٌرابعٌ وهو الأهم ، حول صورتين متناقضتين رسمتا لحياتها : صورةٌ، رسمَها من وجهة نظر شخصية ، الصحفي المرموق محمد التابعي ، في كتابه عن أسمهان ، الذي لا يزال المرجع الوحيد المعتمد لكل ما يتصل بسيرتها ، سواء فيما كتبته الصحافة عنها ، أم فيما أنتجته الشاشة الصغيرة ، وصورةٌ مناقضة لتلك الصورة ، رسمتُها في برنامجي التلفزيوني عنها.
وفي الواقع فإن الصورة التي رسمها الأستاذ محمد التابعي لأسمهان ، وأسهب فيها في توصيف حياة أسمهان الشخصية ، من وجهة نظر غير محايدة ، هي صورة ظالمة على أحسن تقدير ، إذ أنه لم يتوقف فيها أبداً عند سحر صوتها وأدائها ، وهي تتناقض تماماً مع الصورة التي رسمتُها لها ، معتمداً على أغانيها ، التي سجلتها في خمس سنوات فقط ، مرت في سماء الفن كلمح البصر ، و هي صورة غلَّفها تعبير إنساني غير مسبوق عن حزن دفين ، أداه لنا صوت ساحر ، تحول إلى آلة موسيقية بشرية، فتجاوز أهمية الكلمات، ليكون له التأثير المباشر على عواطف المستمع وأحاسيسه ، صافياً كصفاء الجمال، مباشراً لا تنازعه في تأثيره في الوجدان، معاني الكلمات ، مهما كان سحرها.
لقد بينتُ في حلقات ذلك البرنامج ، أسباب الحزن الدفين الذي ارتبط بحياتها العائلية ، و الظروف التي ألزمتها أن تبحث مرتين ، عن فراقٍ إجباري ، لحياة سعيدة عاشتها أميرةً في سورية ، لتعود للغناء مجبرة ! كما أوضحتُ فيها أيضاً ، كيف استطاعت أسمهان في تلك الفترة القصيرة ، أن تحرض بشكل غير مسبوق كبار الملحنين على تجاوز قدراتهم ، وعلى استكشاف مسالك في الحداثة الموسيقية و التعبير الموسيقي ، لم يكن لهم أن يفكروا في استهدافها.
إنني أرى بأنه قد حان الوقت لهذا الجدل أن ينتهي ، وأن تستقر في الوجدان صورة وحيدة لأسمهان ، رسمتها نقلة نوعية في التعبير الإنساني عن حزن دفين ، ولدت معها وذهبت معها ، وأن يوثق لفنها كتاب ، يبقى المرجع الأهم عنها ، لكي تعيش روحها ، بعد 100 عام على الولادة ، في سلام!
د. سعد الله آغا القلعة
لمن يرغب في متابعة دراستي حول السنة التي ولدت فيها أسمهان والتي جعلتنا نعبر اليوم إلى مئويتها:
https://www.agha-alkalaa.net/archives/5420