من أجمل الكتب التي قرأتها في زمنٍ ماضٍ ، كتابٌ للدكتور شاكر مصطفى بعنوان : المظلومون في التاريخ ، تحدث فيه عن شخصيات ظلمها التاريخ ، إذ غلِّبت فيها جوانب سلبية ، فعُرفت بها ، على أخرى إيجابية كان أثرها في التاريخ لا يقل عما اشتهرت به ، أو عن أشخاص غُيِّب ذكرهم تماماً ، مع أن أثرهم في مجالهم كان واضحاً جلياً.. وإن كان لم يتحدث عن أعمالٍ ظلمها التاريخ إذ غيَّبها .. فظلم أصحابها!
في رأيي ، كان الأخ والصديق العزيز الفنان الراحل أسعد الشاطر من هؤلاء .. أبدع في العزف على العود ، و رنّت أوتاره في نصف أقطار الدنيا ، ثم غلبته ظروفه ، وطبيعة العلاقات السائدة في عالم الفن ، ففضل أن يبتعد ، ويركز نشاطه في مدينته حلب ، عاصمة الطرب ، التي لم تقصر أبداً في تكريمه .. إلى أن رحل عن هذه الدنيا وشيع جثمانه في 28 كانون الثاني / يناير 2014.
ولكن الذي جعلني أعتبره ممن ظلمهم التاريخ .. لم يكن لعزوفه عن عالم الأضواء والشهرة ، لأن هذا كان خياره ، بل لما يفعله البعض إذ يتدخل لإلغاء أعمال الآخرين ، وكأنه يسعى ، ولو عن غير قصد ، لإلغائهم …. وإليكم القصة :
كان الفنان الراحل أسعد الشاطر ، عازف العود و الركن الأساس في فرقة الأستاذ صباح فخري الموسيقية في فترة السبعينات ، ثم التحق في الثمانينات ، وبطلب من الفنان بليغ حمدي ، بفرقة الفجر الموسيقية ، بقيادة الأستاذ أمين خياط ، بغاية مرافقة الفنانة ميادة الحناوي في حفلاتها، قبل أن يستقر في حلب ، ويركز فيها نشاطه ، إلى أن غيّبه الموت.
شارك الفنان الراحل في أشهر حفلة للأستاذ صباح فخري على الإطلاق ، وهي الحفلة التي أقيمت في قصر المؤتمرات في باريس نهاية السبعينات ، و قدم خلال الحفل ، ارتجالاً جميلاً على العود ، قوطع عدة مرات بالتصفيق .. ولما بحثت عن تسجيل الحفلة ، أو أي تسجيل آخر له على اليوتيوب ، المورد الأكثر سهولة لتوفير التسجيلات الموسيقية القديمة بسرعة ، والناشر الأهم لها اليوم ، لكي أعرِّف عنه في حديثي هذا بمناسبة رحيله ، فوجئت بعدم وجود أي تسجيل له ، وهذا لاشك مؤسف .. ولكن المفاجأة الأكثر وقعاً كانت ، عندما وجدت ، أن التسجيل الوحيد المتوفر لحفلة قصر المؤتمرات تلك على اليوتيوب ، والمنشور على إحدى القنوات المتخصصة ، لا يحتوي على ذلك الارتجال ، رغم أنه كان قد ورد في الأسطوانة الأصلية.. فعجبت كيف يخطر ببال أحد ، أن يحذف عزفاً بهذا الجمال دون مبرر ، ووجدت أن التاريخ لا يتغير .. يظلم الكثيرين ، إذ يظلم أعمالهم .. ومنهم .. أسعد الشاطر.
بعيد وفاته نشرتُ تسجيل تلك التقاسيم على قناة كتاب الأغاني الثاني على موقع يوتيوب ، بعد أن عدت للأصل ، و قد حقق التسجيل حتى الآن 159000 مشاهدة. كان ذلك بقصد أن أسهم في رفع بعض الظلم عنه ، وعن صاحبه .. وها أنا أروي لكم السبب .. وفاء لأخوّة جمعتنا منذ أيام الصبا والشباب ، واستمرت حتى آخر أيامه.. رحمه الله.
ومع ذلك فلهذه التقاسيم قصة أخرى ترتبط بي شخصياً! إذ نشرت السيدة شذا نصّار في كتابها ” صباح فخري – سيرة وتراث ” الذي صدر في عام 2018 النص التالي:
كان ل سعد الله آغا القلعة ، الذي كان يحضِّر الدكتوراه في الهندسة في باريس ، مساهمة فعالة في مساعدة صديقه الأستاذ صباح فخري في إنجاز تلك الحفلة ، سواء على مستوى الإجراءات الإدارية اللازمة ، أو التغطية الإعلامية ، أو تلبية طلبه أيضاً في المشاركة في عزف القانون الذي برع فيه ، وفي إنجاز مونتاج ومكساج التسجيل الصوتي للحفلة ، الذي تم بغرض نشر الحفلة لاحقاً على أسطوانة ، وقامت به شركة متخصصة فرنسية ، سجلت صوت كل آلة مشاركة في الحفل على قناة خاصة ( truck ) ، حيث كان لابد من الاستماع إلى جميع الآلات ، لضبط نسبتها في التسجيل النهائي.
بعد اكتمال ذلك ، كان لابد أيضاً من ضبط مدة التسجيل الكلية مع المدة المتاحة التي تستطيع الأسطوانة استيعابها ، ولما كان الفرق عبارة عن دقائق قليلة ، وكان من المهم الحفاظ على ما غناه الأستاذ صباح بالكامل ، فقد فضل الدكتور سعد الله أن يحذف التقاسيم التي قدمَّها في الحفلة على القانون ، ليستبقي في التسجيل تقاسيم صديقه الأستاذ أسعد الشاطر على العود ، التي شاعت و انتشرت لاحقاً.