بعد نشرات متتالية ، توقفت فيها عند الموال وتحولاته ، من قالب بعتمد الارتجال ، إلى قالب ملحن بالكامل ، فقد بدا لي أنه من المهم أن أستكمل هذا المسار ، مع هذه الأغنية – الموال ، التي تحول فيها الموال إلى أغنية كاملة ، يمتد أداؤها إلى حوالي الساعة ، إنها أغنية : الأولة في الغرام ، لبيرم التونسي ، وزكريا أحمد ، وأم كلثوم.
أستطيع أن أقول أنني لم أجد لهذه الأغنية مثيلاً في الغناء العربي! لما حملته من عناصر ، تداخلت فيها ، فأصبح المستمع العارف بتلك العناصر ، لا يستطيع أن يعرف حقيقة مشاعره ، هل يطرب ، أم يحزن!
ولدت هذه الأغنية ، في عام 1944 ، مع وفاة محمد ، ابن الشيخ زكريا أحمد ، بشكل مفاجئ. في البداية سيطر الحزن والألم والذهول على الشيخ زكريا لأيام ، وكأنما توقف تفكيره وإحساسه بالحياة . رأت أم كلثوم ، وقد زارته للعزاء ، أن صديقه بيرم التونسي ، هو الوحيد القادر على استعادته ، فأرسلت إليه تعلمه بالخبر الفاجع ، و قد كان على سفر ، فأسرع إلى صديقه ، وبقي معه مواسياً ، لتولد في ذهنه ، كلمات هذه الأغنية ، فيبدأ بها أمام صديقه ، الذي وجد في تلك الكلمات ، وسيلة للتعبير عن مشاعره الحبيسة ، وسرعان ما بدأ يستعيد مع تلك الأبيات ، القدرة على الإحساس بالألم ، و الرغبة في التعبير عنه ، فجاءت هذه الأغنية ، مرسلة بدون إيقاع على الغالب ، كموال حزين!
النص :
بني النص بشكل مبدع ، غير مسبوق ، على شكل دفقات من الكلمات ، ليُستكمل كل بيت من أبيات الأغنية ، على مراحل! ولعله في هذا ، يجسد واقع الألم المسيطر ، فيمنع استكمال المعاني دفعة واحدة ، وكأنما تعوز الشاعر الكلمات للتعبير ، فيبدأ الكلام ، ثم يغص بالبكاء ، وتعوزه الكلمات ، فينتقل إلى البيت الثاني ، فيغص أيضاً ، ليستكمل البيتين التاليين ، بالأسلوب ذاته ، ثم يستعيد البيت الأول ، ليكمل جزءاً منه ، ويستعيد البيت الثاني كذلك ، فيستكمل منه جزءاً ثانياً ، وكذلك البيتين التاليين ، ليعود إلى البيت الأول ، فيستكمله مجدداً ، فالثاني ، فيستكمله ، إلى أن تكتمل المعاني ، فينهي هذه المصفوفة الزجلية ، بالجملة التي كان لا يستطيع البوح بها : سافر حبيبي!
ينتقل بعدها بيرم لتصور حال زكريا ، وهو يتذكر ابنه ، ليصف حاله وهو يودعه ، لينتقل إليه مستنكراً : لا قلت لي فين مكانك * و لا حترجع لي امتى ، ليستعيد بداية الأغنية ، بأبيات كاملة هذه المرة ، وينهي الأغنية في ذروة آلامه: سافر حبيبي.
لمراجعة النص : كتبتُ الأبيت كاملة من البداية ، ووضعت فواصل بين كل مرحلة ، لكي نتتبع كيف رصف بيرم كلماته ، بهذا الشكل المبدع والغريب ، وغير المسبوق ، للتعبير عن الألم العميق ، وعن ذهول العقل ، أمام الفاجعة ، فأصبحت تعوزه الكلمات المعبرة ، فينتقل إلى غيرها ، ليعود ويستكمل ، يا له من أسلوب عجيب!
الأولة في الغرام و الحب شبكوني
و الثانية بالامتثال و الصبر أمروني
و الثالثة من غير معاد راحوا و فاتوني
***
الأولة في الغرام و الحب شبكوني * بنظرة عين
و الثانية بالامتثال و الصبر أمروني * و أجيبه منين
و الثالثة من غير معاد راحوا و فاتوني * قولوالي فين
***
الأولة في الغرام و الحب شبكوني * بنظرة عين * قادت لهيبي
و الثانية بالامتثال و الصبر أمروني * و أجيبه منين * احتار طبيبي
و الثالثة من غير معاد راحوا و فاتوني * قولوالي فين * سافر حبيبي
***
سافر في يوم ما واعدني * على الوصال و عاهدني
و كان وصاله وداع * من بعد طول امتناع
***
حطيت على القلب ايدي * و انا بودع وحيدي
و أقول يا عين اسعفيني * و ابكي و بالدمع جودي *
***
من يوم ما سافر حبيبي * و انا بداوي جروحي
اتاري في يوم وداعه * ودعت عقلي و روحي
***
طالت عليّ الليالي * و انت يا روحي انت
لا قلت لي فين مكانك * و لا حترجع لي امتى
***
الأولة في الغرام و الحب شبكوني * بنظرة عين
و الثانية بالامتثال و الصبر أمروني * و أجيبه منين
و الثالثة من غير معاد راحوا و فاتوني * قولوا لي فين
***
الأولة نار وقادت * و السبب نظرة
و الثانية ما طُلت * غير الصبر و الحسرة
و الثالثة انا اللّي جرى * لي عمره ما يجرى
سافر حبيبي
اللحن والأداء:
لم يكن أمام زكريا ، وهو في غمار حزنه ، أن يضع لحناً موقّعاً ، ولذا جاء اللحن مرسلاً في غالبه ، و على أسلوب الموال ، الذي نقل هنا ، تصريحاً بالحزن العميق ، والألم الذي تتكسر عنده الروح.
جاء اللحن على مقام الراست على درجة الدو ( مخفضة بنصف درجة ) ، لينتقل لاحقاً إلى مقام السوزناك ، وهو من فصيلة الراست ، عند : و الثانية بالامتثال و الصبر أمروني وأجيبه منين ، مع الاستقرار على مقام الهزام ، ليعود عند : و الثالثة من غير معاد راحوا و فاتوني * قولوالي فين * سافر حبيبي ، إلى مقام الراست.
تبدأ الفرقة عندها بلحن موقع بطيء ، في مرحلة شرح ما جرى : سافر في يوم ما واعدني ، مع انتقال إلى مقام السوزناك وعودة إلى الغناء المرسل ، عند : حطيت على القلب ايدي * و انا بودع وحيدي ، وانتقال إلى مقام الهزام ، لتبدأ مرحلة من الغناء ، حيث تتلاشى الحدود بين التطريب والنوح ، مع ترجيعات و تفرديات ارتجالية ، وتلوينات مقامية ، مع الانتقال إلى مقامات : البيات ، عند حطيت على القلب ايدي ، والصبا ، عند: اسعفيني يا عين ، حيث يتم التركيز على كلمة العين الدامعة ، إضافة إلى ملامح تعبيرية ، تسيطر فيها بكائية الأداء ، لتشكيل النوح . يعود اللحن إلى البيات ، في الترجيعات مع : بالدمع جودي يا عين ، لتشكيل التطريب ، لتستعيد أم كلثوم النوح والتطريب ، وتتنقل بينهما ، في دفقات أدائية مبدعة .
يعود اللحن عند : أتاري في يوم وداعه ، إلى مقام الصبا ، ثم الراست . يمتد اللحن طويلاً عند : طالت علي الليالي ، للتعبير عن المعنى ، على مقام الراست ، لتدخل أم كلثوم في سلسلة من الآهات الممتدة والحزينة والمتقطعة ، في تجسيد لحزن النفس الدفين ، وذلك عند مخاطبة الابن : انت ياروحي إنت ، في الدقيقة 23 من التسجيل، لتستعيد التطريب مرة أخرى ، عند الجملة ذاتها لدى تكرارها : إنت ياروحي إنت ، على مقام الراست ، مع تعبيرية لافتة ، فلم يعد الحزن هنا المسيطر ، بينما الحنان ، ليتصاعد اللحن ، عند : ما قلتلي فين مكانك! في الدقيقة 26:09 ، لتصل إلى جواب النوا ، وهذا أحد الأصوات في الأغنية ، مع تعبيرية ، تتلون بين الحنان والاستنكار والألم والحسرة ، لينتقل اللحن إلى مقام السوزناك ، عند : ياروحي إنت ، مع تخافض للحن ، وتكرار فين فين فين ، لتبدأ أم كلثوم في آهات النوح مجدداً ، عند الدقيقة 27 ، حتى الدقيقة 29 ، ثم الدقيقة 30 ، في آهات حزينة متلاحقة ، على مقام الصبا . يستعيد اللحن أخيراً نص البداية : الأولة في الغرام ، على مقام السوزناك ، ليختتم بعد وصف حالته هو : أنا اللي جرالي عمره ما يجرى ، عند : سافر حبيبي!
غامرت أم كلثوم بتقديم هذه الأغنية المرسلة على المسرح ، على مدى ساعة ، إذ أنني اختصرت التسجيل إلى 33 دقيقة ، من تسجيل أصله 56 دقيقة ، فالجمهور تعود على أن يسيطر الإيقاع في الغناء ، وخاصة على المسرح ، ومع ذلك فقد استطاعت أم كلثوم ، أن تقدم أداءاً معجزاً ، تداخلت فيه عناصر النوح والتطريب ، حتى تلاشت الحدود بينهما ، فكان أن تكامل الإبداع بين بيرم وزكريا ، وأم كلثوم!
امتدت مساحة ما غنته أم كلثوم على ديوانين كاملين ، أي على : 15 صوتاً كاملاً ، وكان أداؤها في هذه الأغنية معجزاً ، ومرهقاً ، لدرجة أنها لم تكرر هذه الأغنية كثيراً ، و أعتقد أنها أداءها في هذه الأغنية ، تجاوز أداءها في الكثير من أغنياتها الأخرى، إذ أن الحزن يبقى أنبل العواطف الإنسانية!