كنت توقفتُ على مدى نشرتين سابقتين عند الموال ، ( النشرة الأولى – النشرة الثانية ) في شكله الارتجالي السائد في حلب ، من خلال تسجيلين للمطرب الراحل محمد خيري . عرَّفتُ بالموال ، وشرحتُ باختصار أشكاله الشعرية ، مؤكداً أن أداءه كان يعتمد على الارتجال ، وعلى صوت المطرب ، وامتداد مساحته ، و على تمكن المطرب من المقامات الموسيقية ، والتنقل في مسالكها، كما أشرتُ إلى أن أغراض الموال توزعت ، بين الغزل ، والبوح ، والعتاب ، والتعبير عن حال المحب ، و المدح ، والفخر ، والحنين ، وصولاً إلى إسداء النصيحة ، وطلب التوبة ، والوصف ، والهجاء ، واستخلاص الحكمة.
قمتُ أيضاً بتعداد أشكال الموال ، إذ اعتمدتْ على عدد فردي من الأبيات ، كالموال الخماسي ( الأعرج) ، والسباعي ( الزهيري ) ، و التساعي، مع تتال معين للقوافي ، فصَّلتُ في تبيانه في كل حالة ، مع التأكيد على أن أساس تلك القوافي يقوم على تشكيلها من كلمات متماثلة ، بمعانٍ مختلفة ، فيما يسمى الجناس الكامل .
في مصر ، تم تخفيف هذه الشروط ، فاكتفي بالجناس الناقص ، الذي يحتم التمسك بالروي ( الجزء الأخير من الكلمة ) فقط ، كما أصبح من الممكن أن يأتي الموال ، بعدد زوجي من الشطرات.
بقي الموال ارتجالياً في مصر ، إلى أن ظهرت الأسطوانة ، فسهَّلت تحوله من عمل ارتجالي ، يسجله المطرب ، مرتجلاً ، ضمن شروط المدة المسموح بها للتسجيل لصالح الأسطوانات ، إلى لحنٍ ثابت ، عندما يبدأ المطربون بحفظ الموال من الأسطوانة ، وبترداده في حفلاتهم ، لينتشر كما ورد في الأسطوانة.
أتت نقطة التحول النهائية مع ولادة السينما ، وتقديم المواويل في سياق الأفلام ، خاصة في أفلام محمد عبد الوهاب الأولى ، إذ أن عبد الوهاب كان يلجأ لتسجيل الموال ، لصالح الفيلم ، في المدة المتاحة له في سياق الفيلم ، ثم يعيد تسجيله على أسطوانة ، لصالح شركة الأسطوانات ، في المدة المتاحة في الأسطوانة وهي أطول ، باللحن ذاته الذي ورد في الفيلم ، مع تمهيدات و امتدادات و تنويعات لا تسمح بها نسخة الفيلم ، ما جعل الموّال يتحول إلى عمل ملحن من البداية ، وإن كنت أرى ، أن مواويل عبد الوهاب كانت ملحنة ، حتى في زمن الأسطوانة ، ولكننا لم نكن نملك دليلاً على ذلك ، إلا من لمحات الدخول الاستباقي ، من بعض الآلات الموسيقية المرافقة لأداء الموال ، ما كان يبين أن الانتقالات متفق عليها مع عبد الوهاب ، ولكن وجود نسختين مسجلتين للموال لاحقاً ، ومتطابقتين تقريباً ، مع اختلاف في المدة ، إحداهما للأسطوانة ، وثانيتهما للفيلم ، عزَّز القناعة بأن الموال أصبح ملحناً تماماً عند عبد الوهاب ، و بأن الآخرين سرعان ما ساروا على نهجه.
لنتابع الآن تسجيل موال في البحر لم فتكم ، للأستاذ محمد عبد الوهاب ، كما ورد في سياق فيلم دموع الحب عام 1935 ، وهو من الزجل القديم. ابتدأ عبد الوهاب الموال بالتغني بكلمة ياليل على مقام الجهاركاه ( فيما كنا لاحظنا أن الموال في حلب يبتدئ بالتغني بكلمة أمان ، فيما تبتدئ القصيدة المرتجلة في حلب بالتغني بياليل ) ، مصوراً على درجة النوا ( الدو ) ، ثم ينتقل إلى الراست على النوا ، ويعود للجهاركاه. نلاحظ أن الموال خماسي ، ولكن النص لم يلتزم إلا بتماثل الروي ( الأحرف الأخيرة من الكلمة الأخيرة ) ، في الأبيات الخمسة:
في البحر لم فتُكم في البر فتُوني
بالتبر لم بعتكم بالتبن بعتوني
انا كنت ورده في بستاني قطفتوني
و كنت شمعه جوه البيت طفيتوني
لو عدت بالمره هاتوا المر واسقوني
في النسخة الصوتية ، التي يمكن متابعتها أدناه ، يختلف المسار ، إذ يبدأ فيها القانون بتقاسيم على راست النوا ( الصول ) ، ويبدأ عبد الوهاب بليالي أيضاً على مقام الراست . وحتى الناي تقاسيمه على مقام الراست ، لينتقل القانون، قبيل البدء بالموال ، إلى تقاسيم على الجهاركاه ، ليبدأ بعدها عبد الوهاب بليالي على مقام الجهاركاه ، ويستمر بالموال : في البحرلم فتكم ، في لحن مطابق لنسخة الفيلم ، مع وجود اختلاف ، في أن القانون موجود في نسخة الأسطوانة ، وغير موجود في نسخة الفيلم!
في النشرة التالية أتوقف عند تحول الموال ليصبح عملاً غنائياً ملحناً بالكامل .. مع فريد الأطرش!