في نشرة سابقة ، توقفت عند عمل غنائي ، من ألحان مدحت عاصم ، حفل بإيقاع البوليرو ، و بالانتقالات الصوتية وفق الأساليب الغربية ، وعبّر عن واقع حال الشاعر ابراهيم ناجي ، في ألمه وحزنه ، بصوت محرم فؤاد ، وهو قصيدة الناي المحترق ، أما اليوم فقد رأيت أن أذهب إلى أسلوب غنائي بعيد تماماً ، وإن كان يعبر غالباً عن معانٍ مماثلة ، في الحزن والألم ، وهو الموال ، وذلك لكي نتبين التضاد بين الأسلوبين ، حيث أتوقف على مدى نشرتين متتاليتين ، عند الموال ، كما يغنى في حلب ، من خلال تسجيلين للمطرب الراحل الأستاذ محمد خيري ، في أسلوبين مختلفين أيضاً لأداء الموال ، من حيث طريقة مشاركة الفرقة الموسيقية ، والمضمون ، لأتابع في نشرات تالية ، الحديث عن الموال ، بشكله الجديد ، إذ تحول من عمل ارتجالي ، إلى عمل ملحنٍ تماماً !
الموال
أحد أشكال الغناء الشعبي، نشأ بين العراق وسورية ، على تخوم البادية السورية، وانتقل إلى بغداد و حلب ولبنان ومصر. اختلف الباحثون في أصله، ولكن أغلبهم يعتبره تطوراً طبيعياً للمواليا، التي نشأت في عصر هارون الرشيد على الغالب ، ووُثِّقَ لها لأول مرة في حادثة شهيرة، جرت في عصر الرشيد إبان نكبة البرامكة، عندما مُنِعَ الشعراء من رثاء البرامكة بالشعر، فرثتهم جارية لهم بالمواليا، تخلصاً من عقاب الرشيد.
أتت المواليا بالعامية، وانتظمت عموماً في بيتين وأربع شطرات بقافية موحدة، أما الموال الذي يمكن اعتباره تطوراً لها، وبخاصة لاتباعه وزن البحر البسيط كما المواليا، فقد تعددت أشكاله الشعرية، وتضمن على الغالب أبياتاً بعدد فردي، كالموال الخماسي ( الأعرج) والسباعي ( الزهيري ) و التساعي، مع تتال معين للقوافي. ففي الموال الخماسي مثلاً، تم التمسك بأن تأتي الشطرات الثلاثة الأولى على قافية بكلمات تحقق الجناس التام ( كلمة موحدة بمعان مختلفة ) ، أما الشطرة الرابعة فتختتم بكلمة مختلفة، لتعود في الشطرة الخامسة إلى الكلمة الموحدة، مع مراعاة اختلاف المعنى. ، أما الموال السباعي فيتشكل من شطرات ثلاثة أولى لها قافية موحدة ، بكلمات تحقق الجناس التام ( كلمة موحدة بمعان مختلفة ) ، ثم ثلاث شطرات أخرى ، لها قافية موحدة أخرى ، بكلمات تحقق الجناس التام ( كلمة موحدة بمعان مختلفة ) أما الشطرة السابعة ، فتنتهي بالكلمة الموحدة التي وردت في الشطرات الثلاثة الأولى ، مع مراعاة اختلاف المعنى.
في مصر ، تم تخفيف هذه الشروط ، فاكتفي بالجناس الناقص، الذي يحتم التمسك بالروي ( الجزء الأخير من الكلمة ) فقط.. كما أصبح من الممكن أن يأتي الموال ، بعدد زوجي من الشطرات.
توزعت أغراض الموال بين الغزل والبوح والعتاب والتعبير عن حال المحب والمدح والفخر والحنين، وصولاً إلى النصح وطلب التوبة والوصف والهجاء واستخلاص الحكمة. اعتبر الموال أخضراً في مصر إن تعرض للفرح والمسرة والغزل، وأحمراً إن اتجه إلى الحزن أو النقد السياسي.
موسيقياً، يعتبر الموال ، الذي كان يؤدى ارتجالاً ، من أهم المجالات التي تسمح للمطرب بإبراز قدرات صوته، وامتداد مساحته، وتمكنه من المقامات الموسيقية والتنقل في مسالكها، إضافة إلى طول باعه في مجال الارتجال، حيث كان الموال يرد غالباً، كتمهيد للوصلة الغنائية القادمة، أو كفاصل بين وصلتين.
التسجيل الذي نعرض له اليوم ، من تسجيلات التلفزيون اللبناني ، و يبدأ بتقاسيم على العود للأستاذ عبد الرحمن جبقجي ، على مقام الحجاز كار على الدو ، لينتقل إلى مقامات الحجاز ، فالراست على الفا ، ثم السوزناك ، ليعود و يختتم على مقام الراست ، وذلك للتمهيد لموال خلاً سقاني بكاسات الصبر راحات ، الذي يؤديه الأستاذ محمد خيري ، على مقام الراست ( الماهور ) على الفا ، ويمر فيه على مقامي النكريز على الفا ، والبيات على الدو . تجدر الإشارة إلى أن محمد خيري يصل إلى جواب السي بيمول في هذا التسجيل . نلاحظ أيضاً تأثر الأستاذ جبقجي بالتقاسيم الشهيرة للأستاذ فريد الأطرش.
محمد خيري
مطرب كبير من مطربي حلب البارزين . ولد عام 1935 ، ودرس على يدي محمد نصار وأحمد الفقش وبكري كردي . تميز بصوته اللامع ، واسع المساحة ، و بأدائه العفوي ، المعتمد على الارتجال . عمل في إذاعة حلب في الخمسينات ، ثم في دمشق ، مع افتتاح التلفزيون عام 1960 ، كما عمل لمدة عشر سنوات في بيروت . توفي محمد خيري عام 1981. من المؤسف حقاً أن شهرة محمد خيري لا تتناسب أبداً مع إمكاناته الفائقة في عالم الطرب.
عبد الرحمن جبقجي
ولد الأستاذ عبد الرحمن جبقجي في حلب عام 1931 . بدأ بتعلم العود وهو في السادسة من عمره. عمل في إذاعة حلب منذ عام 1952 ، وسجل العديد من الألحان لصالحها ، ولصالح إذاعة دمشق ، و مختلف الإذاعات العربية. اشتهر بتركيزه على تدوين الأعمال الغنائية وتوثيقها ، في أكثر من 60 كتاباً ، كما أقام عدة حفلات على آلة العود في مهرجانات عربية ودولية عديدة.
الموال الذي نعرض له اليوم جاء على مقام الراست ، بعد تقاسيم للأستاذ عبد الرحمن جبقجي على العود ، على مقام الحجاز كار ، لينهيها على مقام الراست ، للتمهيد لدخول المطرب في الموال . الموال نصه قديم ، وهو سبعاوي أي يتشكل من سبع شطرات ، وقد حفلت معانيه بمضامين ليست بعيدة ما تابعناه ، في قصيدة الناي المحترق :
خلاً سقاني بكاسات الصبر راحات
و الحب ما يوم يسعدني على الراحات
لاكل كفوفي ندم و الطم على الراحات
على وليفا كان شايلني بشرع الهوى
لأبات مهموم و أصبح كل يوم بهوى
إن كنت يا قلب ما تقدر على أهل الهوى
سيب المحبة لاهلها واكتسب راحات
في النشرة التالية أتوقف عند شكل آخر للموال كما يغنى في مدينة حلب!