في النشرة السابقة ، توقفت عند المسرح الغنائي العربي ، منذ ولادته في بيروت ، على يد مارون النقاش ، حوالي العام 1947 ، الذي لم يكن ملحناً ، بل اعتمد على ألحان شائعة ليركب عليها نصه المسرحي ، ثم أبو خليل القباني المؤسس الحقيقي للمسرح الغنائي العربي ، من خلال وضع ألحان خاصة بالمسرحية المغناة ، ثم سلامة حجازي و سيد درويش و زكريا أحمد ، قبل أن تنهيه السينما في مصر ، وترثه لفترة قصيرة ، ليستمر في لبنان ، على يد الأخوين رحباني وفيروز أساساً ، قبل أن يغيب مرة أخرى ، مع تفكك تلك المدرسة المبدعة ، رغم محاولات منصور رحباني المتابعة ، ومسرحيات زياد التي لم تستمر .
نعم نحن نشهد اليوم ، غياباً كاملاً للمسرح الغنائي ، فيما أرى أن الاهتمام به سيجسد أولى الخطوات نحو الحفاظ على عناصر الموسيقى العربية ، كما تطورت في عصر النهضة ، وفي تطويرها ، وتوليد أعمال جديدة جاذبة للجمهور. فهل هذا ممكن؟
حملت بعض التعليقات ، على مقال البارحة ، يأساً واضحاً من إمكانية استعادة ألق المسرح الغنائي العربي ، سواء أكان ذلك بسبب الافتقاد إلى عناصره المبدعة ، من كلمات ولحن وأداء ، أو إلى عناصره الداعمة ، وأهمها الإنتاج القادر على تقديمه في صورة لائقة. ومع أن هناك الكثير من الدقة في هذا الكلام ، فإننا نشهد بالمقابل إنتاجات باذخة ، توفرها الفضائيات العربية ، فلمَ لا تهتم إحداها ، بإنتاج مسرحية غنائية عربية ، على غرار عروض برودوي ، فيها القصة والحبكة والعناصر الدرامية ، وتقدم للتلفزيون؟
على كل حال ، أتابع اليوم في طرح السؤال ، عن إمكانية استعادة ألق المسرح الغنائي العربي ، متوقفاً عند مشهد آخر ، ذي طابع درامي مختلف ، لتبيان الصور المتعددة التي يؤمنها المسرح الغنائي، من أعمال جمالية ، كما شهدنا البارحة ، في مشهد المصالحة بين نصري شمس الدين ووديع الصافي ، وتعبيرية كما نشهد اليوم!
أتوقف اليوم إذاً ، عند مشهد من مسرحية ناطورة المفاتيح ، للسيدة فيروز والأخوين رحباني ، وهي من أعمال عام 1972 ، يتضمن أغنيتها : ويننْ.
أتت الأغنية في سياق المسرحية ، معبرة عن الحدث الدرامي فيها ، إذ يغادر أهل المملكة مدينتهم ، بعد أن فرض الملك ضريبة جديدة ، يشارك من خلالها الرعيةَ في أملاكهم ، ما يدفع الجميع للمغادرة ، وإبقاء مفاتيح بيوتهم في عهدة زاد الخير ( فيروز ) ، لتبقى فيروز وحدها في المدينة ، تنطر المفاتيح ، وتغني : وينن!
تأتي الأغنية بعد مشهد وداعي حزين ومهيب ، يسلم فيه أهالي المدينة مفاتيحهم لزاد الخير ، ويسترعي الانتباه من البداية ، الأسلوب المبدع في تلحين هذا المشهد التمهيدي ، إذ تغني النساء :
زاد الخـيـر * انطـري الـبـيـوت * وانـطـري المفـتـيح * لـلـزمـان التـانـي
زاد الخـيـــر * انــتـــي صـــرتـي * وحــدك صـــرتي * نـاطــورة الـبــيوت * نـاطورة المفـاتـيح
في انتقالات موسيقية ، على درجات موسيقية مختارة ، لا تندرج في سياق مقام موسيقي محدد ، تعبر فيها النسوة عن الاضطراب ، وعن الألم والتوجس من مغادرة بيوتهم ، وترك مفاتيحها قبل المغادرة ، فيما نجد أن اللحن المخصص للرجال مختلف ، إذ يأتي على مقام موسيقي محدد ، هو مقام الكرد على درجة السي ، حاملاً ملامح التصميم والإرادة ، الممزوجة بالألم والحنين :
لما بيرسي مركب الليل * على سطوح المدينة *
وبياخدني سفر الليل * انطريني انطريني * ع باب المسافة انطريني .. أنا رايح انطريني
ليجتمع الرجال مع النساء أخيراً ، مكررين المقطع الثاني ، في دلالة على اقتناع الجميع بضرورة الرحيل . أسلوب لحني مبدع فعلاً ، في التعبير عن التباين في المشاعر ، بين النساء والرجال في لحظة الفراق ، و مغادرة المدينة:
لما بيرسي مركب الليل * على سطوح المدينة *
وبياخدني سفر الليل * انطريني انطريني * ع باب المسافة انطريني .. أنا رايح انطريني
**
بعد انتهاء هذا المشهد الرتيب الحزين ، تأتي ضربات صادمة من البيانو ، على مقام الحجاز كار على درجة اللا ، في انتقال مفاجئ من غناء الأهالي إلى غناء فيروز ، إذ تخفض الطبقة الموسيقية بدرجة موسيقة كاملة ، دون أي تمهيد. طبعاً كان من الممكن للأخوين ، تنفيذ غناء الأهالي على درجة اللا ، من البداية ، إذاً هو تغيير للطبقة الموسيقية مدروس ، وفي رأيي أنهما أرادا من خلاله ، أولاً : التعبير عن الانتقال من مشهد لآخر ، أي أنها أصبحت هنا وحيدة ، بعد مشهد مغادرة الأهالي ، وثانياً : التعبير ، من خلال تخفيض الطبقة ، عن اضطراب زاد الخير النفسي ، وقد أصبحت وحيدة حبيسة في المدينة الخالية!
تعيد نقرات البيانو زاد الخير إلى أرض الواقع، وتذكرها ، من خلال صداها المنتشر باختفاء الناس ، وفراغ المكان ، و بأنها أصبحت وحيدة ، فتبدأ بالغناء في كلمة واحدة : ويننْ ، في صدامية لافتة ، على مقام الحجاز كار .
بنيت هذه الكلمة إيقاعياً في نبضتين قويتين ، كمن يطرق باب الفضاء الساكن ، مستنكراً هذا الواقع الجديد ، إذ اضطر الأهالي لمغادرة المدينة ، ليتردد صوتها معبراً عن ذلك الفضاء ، وكأنها أصبحت وحيدة على قمة جبل أمام وادٍ سحيق ، لتتكرر النبضات القوية التي أصبحت متلاحقة ، في تطوير لافت لصدامية الدخول عند : وين صواتن وين وجوهن وَينن * لتستنتج أن الوديان أصبحت تفصلهم عنها : صار في وادي بيني وبينن ، ليجتاحها ألم غامر ، تكتمه في حناياها ، فتقيده ، مثلما قيدت نفسها بقرارها البقاء في المدينة ، فتطلق صوتها المكتوم معبراً من خلاله عن التضاد بين ألمها من جهة ، وقرارها بالبقاء في المدينة حبيسة ، تنطر مفاتيح بيوتها ، ملخصة بذلك الجملة اللحنية ، ومنهية لها ، مع رد فعل من الفرقة الموسيقية ، بإطلاق صوتٍ هو حساس مقام الحجاز كار ، وليس درجة استقراره ، ليزيد هذا من عنصر الاضطراب والضياع والانكسار ، في مشاعر زاد الخير ، حبيسة المدينة الخالية، ياله من تعبير!
يستفيد الأخوان رحباني من هذا الأسلوب المبدع ، أيضاً ، في توفير تخافتٍ للّحن ، يمهد لعودة نقرات البيانو الصادمة ، التي تسمح لزاد الخير ، بإطلاق آهات الألم ، في تناوب مع تخافض اللحن!
بُني لحن الأغنية على قالب الطقطوقة التقليدية ، المشكل في هذه الأغنية من لحنين : المذهب ، وهو الذي تابعناه قبل قليل ، مع تطويره ، استناداً لعناصر قالب المونولوج ، ليكون لحناً مرسلاً ، مع ملامح إيقاعية تحملها نبضاته التعبيرية عن معاني الاستنكار والحزن ، فيما أتى اللحن الثاني موقَّعاً ، متكرراً في الأغصان ، إذ يأتي مع الغصن الأول:
ركبوا عربيات الوقت * وهربوا بالنسيان
تركوا ضحكات ولادن * منسية ع الحيطان
تركولي المفاتيح * تركوا صوت الريح * وراحوا ما تركوا عنوان!
و يتكرر مع الغصن الثاني :
عشاق الطرقات افترقوا * لا حكي لا مواعيد
أنا وحدي صوت الشوارع * أنا طير القرميد
هربت بهالليل * من مربط هالخيل * وأنا قلبي للحزن الوحيد
تتابع خلايا اللحن الثاني استنادها إلى مقام الحجاز كار ، ونلحظ ببساطة اهتزاز اللحن عند كلمتي المفاتيح ، التي أصبحت في عهدتها ، وتعبر عن خشيتها من هذه العهدة ، والريح ، تعبيراً عن مدلولاتها ، كما تلفتني اللغة الشاعرية عند : ركبوا عربيات الوقت ، ضحكات الأولاد المنسية ع الحيطان ، طير القرميد ، الذي يختصر في تصوير بديع معاني الوحدة ، إذ أنه الطير الذي لا يستطع أن يبني عشه على غصون الأشجار ، فيبنيها على ألواح القرميد المقفرة!
تختتم زاد الخير ( فيروز ) أغنيتها بإطلاق نبضتي الألم والاستنكار : ويننْ!
نص الأغنية
المذهب : اللحن الأول
فيروز: ويـنـن؟
وين صواتن وين وجوهن وَينن
صار في وادي بيني وبينن
وَينن
اللحن الثاني
ركبوا عربيات الوقت * وهربوا بالنسيان
تركوا ضحكات ولادن * منسية ع الحيطان
تركولي المفاتيح * تركوا صوت الريح * وراحوا ما تركوا عنوان!
تكرار المذهب
وَينن وَينن
وين صواتن وين وجوهن وَينن
صار في وادي بيني وبينن..
آه وَينن
تكرار اللحن الثاني
عشاق الطرقات افترقوا * لا حكي لا مواعيد
أنا وحدي صوت الشوارع * أنا طير القرميد
هربت بهالليل * من مربط هالخيل * وأنا قلبي للحزن الوحيد
تكرار المذهب للختام
وَينن وَينن
وين صواتون وين وجوهون وَينن
صار في وادي بيني وبينن
وَينن