عندما أتمعن فيما يجري في عالم الموسيقات الجادة في العالم ، والتي تعيش ظروفاً مشابهة لما تعيشه الموسيقى العربية الأصيلة ، فإنني أجد أن العالم يتجه ، للحفاظ على رصيده ، من العناصر الموسيقية التي تطورت في عصر النهضة الأوربية ، إلى توظيفها في مجال الموسيقى التصويرية للأفلام ، وهو ما وجد مماثلاً له في الموسيقى التصويرية للمسلسلات التلفزيونية العربية ، و كذلك في عروض المسرح الغنائي ( Musicals ) ، التي تحظى كل يوم بنجاحات كبرى ، وخاصة في عروض برودواي في نيويورك ، التي تنتقل إلى عواصم العالم ، محققة نجاحات غير مسبوقة ، رغم البذخ الذي تتطلبه عملية إنتاجها ، نظراً لأنها تأتي في سياق عملية إنتاج مكتملة ، تتوزعها العروض المسرحية ، والتسجيلات الموسيقية ، و الملابس التي تنتشر أزياؤها بين الناس ، فهل من أمل في أن يستعيد عالمنا العربي مسرحه الغنائي ، ويجد من ينتج أعمالاً تأتي في سياقه؟
الأوبريت
استندت عروض برودواي إلى صيغة الأوبريت ، وهي صيغة من صيغ المسرح الغنائي، ازدهرت في أوربا منذ القرن التاسع عشر، ووجدت قبولاً لدى مختلف الطبقات الاجتماعية. جاء الاسم من الايطالية Operette ، وهي صيغة التصغير لكلمة ( Opera ) ، ليدل على أن الأوبريت صيغة مبسطة عن الأوبرا ، فالأوبريت تكتب بلغة النثر لا الشعر، كما هي الأوبرا ، وتكون عادة ذات طابع خفيف عاطفي ، بعيد كل البعد في التلحين والأداء ، عن القواعد الصارمة للأوبرا، كما تستند إلى ألحان سهلة وسريعة الحفظ، وأغان خفيفة قصيرة لا يمكن مقارنتها بأغاني الأوبرا الفخمة. استطاعت الأوبريت خلال مراحل تطورها، أن تشكل طيفاً واسعاً، يمتد من الطابع الهزلي والفكاهي السطحي ، المنفصل عن الزمن، إلى الطابع الاجتماعي ، الذي يستعيد أحياناً قصصاً مشهورة بأسلوب معاصر ، وصولاً إلى الطابع السياسي الساخر ، ذي المضمون العميق، واستقرت شكلاً ، لتتضمن افتتاحية موسيقية أوركسترالية ، ثم سلسلة من أغنيات فردية ، وحواريات ، ومقاطع غنائية جماعية، تتقاطع مع حوارات مسرحية خالصة.
المسرح الغنائي العربي
ولد المسرح الغنائي العربي في بيروت على يد مارون نقاش، الذي يعتبر أيضاً مؤسس المسرح العربي، و كان ذلك عبر مسرحيته “البخيل” التي قدمها في بيته ببيروت في أواخر عام 1847 ، ثم مسرحياته العديدة التي تلتها . ولكن المؤسس الحقيقي للمسرح الغنائي العربي ، كان أحمد أبو خليل القباني، فالنقاش لم يكن ملحناً ، بل كان اعتمد على ألحان قديمة شائعة ، ليركِّب عليها كلمات النص المسرحي.
ابتدع القباني المسرح الغنائي العربي ، المعتمد على ألحان جديدة، ونقله إلى مصر. بدأ ذلك في عام 1880 عندما كتب القباني أولى مسرحياته ” ناكر الجميل” ، وقدمها في دمشق، بعد أن لحن بعض مقاطعها، إضافة إلى استخدام بعض ألحان الموشحات والقدود القديمة الملائمة، معتنياً بالديكور والملابس والإخراج. اتجه القباني إلى مصر في عام 1884 ، حيث أنشأ مسرحه الخاص في القاهرة، وقدم خمساً وثلاثين مسرحية غنائية في سبعة عشر عاماً متتالية، انضم إلى فرقته خلالها أهم مطربي مصر، كعبده الحمولي، وسلامة حجازي رائد المسرح الغنائي المصري فيما بعد. اعتمد سلامة حجازي على الأغنية الفردية والارتجال في مسرحه، قبل أن يغير سيد درويش هذه القاعدة ، فيستحضر الأغنية المسرحية الجماعية ، والحواريات الغنائية ، ويلغي الارتجال ، لأنه لا يتوافق مع التعبير التمثيلي.
المسرح الغنائي العربي والأوبريت
سمح الطابع الغنائي للمسرح ، في نشأته في العالم العربي ، باستيعاب الأشكال والأنواع المسرحية الموسيقية والغنائية السائدة و الوافدة ، ومن ضمنها الأوبريت، فأقبل عليها رجال المسرح في بداية القرن العشرين، مستعينين في ذلك بنصوص أوربية، بعد أن حاولوا ، دون نجاح يذكر ، تقديم أعمال أوبرالية ، مفضلين بالتالي اعتماد صيغة الأوبريت ، التي جذبت مختلف الأذواق، بسبب عدم ارتباطها بالقواعد الموسيقية الصارمة للأوبرا، ما سمح لها باستيعاب مختلف صيغ الغناء العربي التي كانت سائدة ، مع إضفاء التعبير الدرامي عليها، وهكذا قُدمت عدة أوبريتات أهمها ما قدمه سيد درويش ، كأوبريتات “العشرة الطيبة ” ، و “البروكة ” ، و “شهوزاد ” أو “شهرزاد ” ، وكذلك ما قدمه زكريا أحمد ، وغيره من الملحنين ، من أوبريتات ، سعت لاحقاً للتعايش مع السينما ، دون أن تنجح في ذلك!
المسرح الغنائي العربي والسينما
أنهت السينما اهتمام الجمهور بالمسرح الغنائي ، فبعد أن كان مضطراً للإصغاء التام ، بسبب عدم وجود تكبير للصوت ، ناهيك عن طول مدة الأوبريتات ، أصبح يستمع إلى الغناء ضمن الأفلام بوضوح ، وأصبحت الأغاني تتوافق مع إيقاع الفيلم ، فيما استفادت السينما من تراث المسرح الغنائي ، في تحديد ملامح الأغنية السينمائية ، وفي تقديم أوبريتات مختصرة ، تتلاءم مع إيقاع الأفلام السريع نسبياً ، وذلك كما رأينا في مشاهد من أوبريت ” قيس وليلى ” لمحمد عبد الوهاب، و عدد من الأوبريتات لفريد الأطرش ، أهمها أوبريت ” انتصار الشباب ” ، التي كانت الأولى ، كأوبريت سينمائية متكاملة ، وكذلك أوبريتات محمد فوزي ، وغيره.
عاد الاهتمام بالمسرح الغنائي في مصر ، في الأربعينات و الخمسينات من القرن العشرين ، بعد أن أعيد تقديم بعض مسرحيات سيد درويش ، في إطار إذاعي جديد ، دون أن يستمر هذا التوجه ، مع ولادة التلفزيون.
بالمقابل ، استعادت صيغة الأوبريت ألقها ، في النصف الثاني من القرن العشرين ، في لبنان ، مع ولادة المسرح الغنائي الرحباني، الذي يمكن تصنيفه ضمن الأشكال الراقية للأوبريت ، إذ كان مسرحاً شاملاً ، حقق الترابط بين الواقعية ، والتجريد ، والبساطة ، والتعقيد، وكانت أساسياته معتمدة على أجواء غنائية متنوعة، و على صوت السيدة فيروز ، وهو ما حرَّض العديد من المسرحيات الغنائية الأخرى في لبنان ، شارك فيها وديع الصافي ، وصباح ، و نصري شمس الدين ، وملحم بركات وآخرون ، ولكنها لم تستطع أن تنال حظاً كبيراً من الشهرة.
تسببت ولادة التلفزيون في لبنان ، في توليد صيغة جديدة ، تلفزيونية و غنائية مبسطة ، حرَّضها الأخوان رحباني مع فيروز ، كما رأينا في قصيدة حب وسهرة حب وغيرها للأخوين رحباني وآخرين ، فيما تابع زياد رحباني تقديم مسرحيات غنائية ، لبرهة من الزمن.
الغياب
نشهد اليوم ، للأسف ، غياباً كاملاً للمسرح الغنائي ، وضياعاً لرصيد المسرح الغنائي العربي من الألحان ، بسبب عدم توثيقها، وخاصة إن كانت ضمن السياق الدرامي للمسرحية ، مثلما ضاعت بعض أغاني الأفلام ، التي لم يسجلها المغنون على اسطوانات.
من هنا فإنني أرى ضرورة استعادة الاهتمام بالمسرح الغنائي ، من خلال توثيق رصيده ، وتحفيز أعمال جديدة في إطاره ، إذ أن هذا سيجسد إحدى أهم الخطوات ، نحو استعادة عناصر الموسيقى العربية ، كما تطورت في عصر النهضة ، و تطويرها ، و توليد أعمال جديدة في فضائها ، جاذبة للجمهور ، فهل هذا ممكن؟
أرفق مع هذا المقال ، مشهداً تلفزيونياً ، مقتطفاً من قصيدة حب للأخوين رحباني ، وهو مشهد المصالحة بين نصري شمس الدين ووديع الصافي ، برعاية فيروز ، ليذكرنا بإمكانيات المسرح الغنائي ، في دمج أشكال الغناء التراثية ، مع التعبير الذي يتطلبه المسرح ، في إطار جماعي!
في النشرة التالية ، أتابع طرح السؤال ، عن إمكانية استعادة ألق المسرح الغنائي العربي ، متوقفاً عند مشهد آخر ، ذي طابع درامي مختلف ، مع تحليل موسيقي له ، وذلك لتبيان الصور الغنائية المتعددة ، التي يؤمنها المسرح الغنائي ، إن استطعنا استعادته يوماً!