أنشر اليوم دراستي للعلاقة بين السمع والبصر في الموسيقى العربية، من خلال تفكيك رموز الشارة الغنائية لمسلسل أرابيسك ، من كلمات الشاعر سيد حجاب ، وألحان الموسيقار الراحل عمار الشريعي ، ومن ثم عبر نظرة في عمق فن الموشحات نصاً ولحناً ، عبر أداء لصباح فخري ، و رنين ارتجالات لي على آلة القانون!
أثبتُ هنا، و بعد توقفٍ عند أسباب ولادة هذا الفن في العمارة العربية الإسلامية ، وعناصره الموصوفة أعلاه ، أن تلك العناصر ، كان لها مقابلات سمعية حقيقية في الغناء العربي!
الأرابيسك البصري والسمعي!
الأرابيسك فن عربي إسلامي ، بصري و تجريدي ، اعتمد الانطلاق من خلية بصرية أولى ، تدخل في تلاحم و تضاد مع لاحقاتها ، في الاتجاهات الأربعة ، مشكلة كتلة بصرية ، تتتالى مع مثيلاتها وتتكرر ، في إيقاع بصري متناظر ، شاقولياً وأفقياً ، متغير حركياً.
وُلد هذا الفن نتيجة امتناع الفنانين في الحضارة العربية الإسلامية ، عن تجسيد الأشخاص ، واعتمادهم الزخارف والأشكال الهندسية متضادة الألوان ، و التوريق ثلاثي الأبعاد لأوراق الشجر ، الذي يجسد تضاريسها الغائرة والبارزة ، مجرداً إياها من التفاصيل ، ونشرهم لتلك العناصر في تشكيلات هندسية ، تعتمد عنصري التناظر والتكرار ، كما رأينا ، على مساحات واسعة في واجهات وأعمدة المساجد والقصور والقباب الإسلامية ، مستبعدين البعد المنظوري الثالث ، ما ميز هذه الصروح ، عن غيرها من الصروح المعمارية ، السابقة لها ، واللاحقة!
أثبتُ في التسجيل الذي أنشره اليوم إذاً ، أن هذا كله ، كان له مقابلٌ سمعيٌ حقيقيٌ ، في الغناء العربي!
التسجيل
التسجيل الذي أنشره اليوم ، مقتطف من برنامجي التلفزيوني ” نهج الأغاني ” ، وهو من أعمالي لعام 1997 ، أي منذ عشرين عاماً ، أتوقف أولاً فيه عند تحليلي للعلاقة بين السمع والبصر ، في لحن الأستاذ محمد عبد الوهاب لقصيدة لا تكذبي.
أنتقل بعد ذلك إلى الشارة الغنائية لمسلسل أرابيسك ، وهو مسلسل تلفزيوني كتبه الراحل أسامة أنور عكاشة ، وعُرض عام 1994 من إخراج جمال عبد الحميد ، ناقش فيه مسألة الانتماء والهوية ، والضياع الذي عاشه العالم العربي بعد نكسة حزيران ، وذلك في سعي منّي لتفكيك رموز نص الشارة ، الذي كتبه سيد حجاب ، و لحنها ، الذي صاغه عمار الشريعي ، و لتحديد مدى تعبير الشارة ، في إجمالها ، عن الأرابيسك.
قادني السعي لتفكيك رموز الشارة أمام المشاهدين ، إلى تنفيذ مباشر لترجمة بصرية ، عبر الكمبيوتر ، لنصوص موشحين ، منطلقاً من الخلية السمعية الأولى ( النقرة ) ، وتجسيدها البصري ، إلى تعميمها في المساحات الأكبر ، وبالألوان ، وصولاً إلى إثباتٍ جليٍ ونادر ، بأن عناصر التناظر والتكرار ، و التضاد بين الفاتح والداكن، و بين الغائر والبارز، في الفن المعماري العربي الإسلامي ، هي ذاتها التي نراها في تناظر وتكرار الكتل الشعرية ، موحدة الوزن و الروي أو القافية ، في الشطرات الداخلية في الموشحات ، ما يحقق مبدأ وحدة الفن في الحضارة العربية الإسلامية.
أتوقف بعد ذلك عند تسجيل نادر لموشح كللي يا سحب تيجان الربى بالحلي ، بصوت الأستاذ صباح فخري ، وعند نصه ، المحقق للمبدأ ذاته ، في وحدة التجسيد البصري والسمعي ، لأعود إلى شارة مسلسل أرابيسك ، فأثبت ، بعد هذا الشرح المتأني ، أن التتالي والتضاد في نصها ، الذي كتبه بإبداع سيد حجاب ، يحقق المبدأ ذاته أيضاً!
أكشف أخيراً ، ومن خلال مقاربة سمعية ، في عزف لي على القانون ، للتفاصيل البصرية الدقيقة في فن الأرابيسك ، أسباب تركيز عمار الشريعي على تلك الآلة ، في شارة المسلسل ، في إبداع قل نظيره ، لملحن حُرم من نعمة البصر ، استطاع تجسيد أدق تفاصيل فن الأرابيسك ، موسيقياً ، من خلال آلة القانون ، دون أن يراه!
التسجيل المنشور مدته 27 دقيقة ، وفيما تجمع الدراسات على انصراف المشاهدين عن متابعة التسجيلات الطويلة ، و تفكيري بالتالي أن أنشره على مرحلتين ، فقد رأيت أخيراً ، أن وحدة الموضوع ، ووحدة الفن ، تتطلب وحدة العرض ، وهكذا كان!