أتوقف اليوم عند أغنية هامة لرياض السنباطي ، خارج الإطار الكلثومي ، وهي : يا قدس يا حبيبة السماء ، من كلمات محمود حسن اسماعيل ، و أداء سعاد محمد.
نص الأغنية
كتب محمود حسن اسماعيل قصيدته يا قدس يا حبيبة السماء ، متأثراً بحرق المسجد الأقصى يوم 22 آب/ أغسطس 1969 ، إذ هزَّ هذا الحدث الأليم وجدانه ، فأرادها رسالة إلى المدينة المقدسة ، لكي تستعيد أملها بالحياة ، وتستمر في رسالتها الأبدية ، في إقامة الصلاة ومباركة الحياة ، ولكنه اكتفى بذلك ولم يرسم الطريق لمعالجة أصل المأساة!
سعاد محمد :
وعادت الطيور في المساءْ
فلم تجد في القبّة الضياءْ
ولا صدى الترتيل والدعاءْ
فهزَّت الأوتارَ بالنداءْ:
يا قدس يا حبيبة السماءْ
المجموعة:
قومي إلى الصلاة وباركي الحياة
* * *
سعاد محمد:
ورددي التسبيح في المآذنِ
وأيقظي الأجراس في المدائن
وكبِّري للهِ لا تُهادني
قومي إلى الصلاة * المجموعة: وباركي الحياة
* * *
سعاد محمد مع الإيقاع
لا توقفي الدعاءَ للرحمن
مهما لقيتِ من أذى الشيطان
ردِّي عليه إثمه وقومي
وواصلي الحديث للنجومِ
عن بأسك الصامد من قديم
في وجه كل غادر أثيم
وفجِّري من حالك الظلام
نوراً يرد عزة الأيام
فلم تزل فيك خطى الإسراءِ
سابحةً في الطهر والضياءِ
يا قدس يا حبيبة السماءْ
المجموعة :
قومي إلى الصلاة وباركي الحياة
* * *
قومي ومهما اشتدَّت الجراحُ
فكلُّ ليل بعده صباحُ
غداً يهل الفجر للأعتاب
وترجع الطيور للقباب
ثانية بالحب والصفاء
هاتفة بأصدق النداء
قومي الي الصلاة والترتيل والدعاء
يا قدس يا حبيبة للأرض والسماء
قومي الى الصلاة
اللحن:
بُني اللحن على مقام راحة الأرواح أساساً ، وهو عبارة عن مقام الهزام ، مصوراً على درجة السي نصف بيمول ، واعتمد فيه رياض السنباطي أسلوب التلحين التقليدي للقصيدة ، وهذا ملائم للجو العام للقصيدة والمضمون ، إذ لم تتقاطع الموسيقى مع لحن الأبيات ، كما تم التخطيط للَّحن ليعبر عن ثلاثة أفكار أساسية : القدس هي بكنائسها ومساجدها ، وهي حبيبة السماء ، وعليها أن تستعيد أملها بالحياة ، وتستمر في رسالتها الأبدية ، في إقامة الصلاة ، ومباركة الحياة.
سنلاحظ ذلك التخطيط المسبق في سياق اللحن ، إذ يبلغ اللحن ذروته عند جملة : يا قدس يا حبيبة السماء ، بعد تمهيدٍ لحني متصاعد بوضوح ، كما يبرز ، من خلال تكرار المجموعة ، التي تعبر عن ضمير الشعب لجملة : قومي إلى الصلاة و باركي الحياة ، بين أبيات القصيدة ، مع تصاعد اللحن تدريجياً ، بين حالات التكرار ، كما سنرى لاحقاً ، ليصل إلى ذروته عند : وباركي الحياة ، في المرة الثانية والثالثة من تكرارها ، لمزيد من التأكيد ، فيما يعبر اللحن عن اجتماع مكونات القدس من كنائس ومساجد ، من خلال أداء كلمة الصلاة ، في أسلوبين متتاليين ، بين سعاد محمد والمجموعة ، التي تكرر الدعوة إلى الصلاة بأسلوب جماعي ، إذ أن الدعوة للصلاة : إفرادية في المساجد ، وللترتيل : جماعية في الكنائس!
تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية مرسلة ، بنيت على تدرجات صوتية ، تعتمد أنصاف الأبعاد المتتالية ، لتعبر عن أجواء غريبة وحزينة تواجه الطيور ، إذ تقترب من قبة الأقصى ، تنفذها أولاً آلات الكمان ، بأسلوب التريمولو ، أي الاصوات المتلاحقة السريعة ، و في منطقة الأصوات الحادة ، المعبرة عن وجود الطيور في السماء العالية ، مع تصاعد ، يصور اقتراب الطيور من المسجد الأقصى ، لتدخل ، بالمقابل ، آلات التشيللو ، في منطقة الأصوات العريضة ، المعبرة عن الواقع الأليم في الأرض ، فتكرر اللحن ، وكأنما هو صدى لارتياع الطيور ، إذ لم تجد الضياء في قبة المسجد الأقصى ، بعد حرقه ، لتعاود آلات الكمان فتتصاعد باللحن أكثر مع اقتراب الطيور أكثر ، قبل أن يحل سكون الدهشة الكاملة ، لتدخل آلات التشيللو مباشرة ، على درجة استقرار مقام الهزام ، المصور على درجة السي نصف بيمول ( مقام راحة الأرواح ) ، ممهدة لبدء الغناء.
كان اختيار مقام الهزام هنا موفقاً ، إذ أنه يستقر على درجة صوتية تعتمد أرباع الأصوات ، فهو ملائم للأجواء الدينية من جهة ، كما أن له بعداً تعبيرياً محتملاً ، إذ أن الاستقرار على درجة صوتية غير كاملة ، يجعله استقراراً يشوبه توازن قلق ، يعبر هنا عن الشعور بعدم الارتياح ، أو بافتقاد الأمان ، بعد حرق المسجد الأقصى!
يبدأ الغناء بتصاعد لحني عند : وعادت الطيور في المساء ، وكأنما يرتفع المرء نظره إلى السماء ، ليشهد عودة الطيور ، ليتخافض اللحن عند : فلم تجد في القبة الضياء ، تعبيراً عن التحسر ، ليستمر التخافض التحسري ، حتى يرتفع مجدداً معبراً عن النداء ، عند : يا قدس يا حبيبة السماء ، وللتعبير أيضاً عن موقع السماء ، في قبة النظر.
نلحظ أن المجموعة ، في أول توقف عند فكرة : قومي إلى الصلاة ، تدخل بلحن موقع ، وذلك لأول مرة في الأغنية ، لإبراز فكرة : قومي إلى الصلاة وباركي الحياة ، لأول مرة ، فيما سنجد لاحقاً ، عند تكرار هذه العبارة ، تصاعداً أكبر ، إذ تكون الفكرة قد وصلت ، وتركيزها يتطلب زخماً لحنياً أعمق ! وهو ما سنشهده بعد : وكبري لله لا تهادني.
بُني اللحن ، من حيث الإيقاع ، في ثلاثة فضاءات لحنية: الفضاء الأول : مرسل ، له طابع وجداني ، والثاني : موقَّع بطيء ، لتركيز الأفكار ، والثالث : موقَّع حيوي لزرع الأمل ، وذلك عند: غداً يهل الفجر للأعتاب . بُني اللحن في الفضائين الموقَّعين على أسلوب تلحين القصيدة التقليدي ، كما أسلفتُ ، حيث لا تقاطع بين الموسيقى والغناء ، ما يسمح بإكمال الفكرة ، كما في إلقاء الشعر. اللحن متصاعدٌ دوماً ، بعد الجمل المتخافضة التحسرية في البداية ، لأن رسالة الأغنية ليست في التحسر ، بل في زرع الأمل في الحياة من جديد ، ليتكون لدينا ذروتان للتصاعد ، عند : يا قدس يا حبيبة السماء ، و كذلك عند : قومي إلى الصلاة وباركي الحياة ، في دعوة واضحة كما أسلفت.
يمكن القول بأن البعد التعبيري لم يظهر بوضوح عندما يرد في النص :
لا توقفي الدعاءَ للرحمن * مهما لقيتِ من أذى الشيطان * ردِّي عليه إثمه وقومي * وواصلي الحديث للنجومِ * عن بأسك الصامد من قديم * في وجه كل غادر أثيم *
إذ استمرت أجواء اللحن في الصيغة التي تشيع الأمل عند أهل القدس ، خاصة أن النص لم يوضح أساليب الرد على إثم الشيطان ! كما يتحول اللحن عند: و فجِّري من حالك الظلام ، إلى مقام الراست مع تصاعد لافت نسبياً . يمتد عند كلمة : الإسراء ، ليعبر عن الأهمية الدينية لرحلة الإسراء ، وكذلك عند كلمة : الضياء ، التي تعبر عن حال القدس ، بكنائسها ، عندما كانت تلك الرحلة.
يتحول اللحن إلى مقام البيات ، عند : قومي ومهما اشتدت الجراح ، ليُختتم على مقام العراق ، وهو من فئة مقام الهزام ، ولكنه مشكل من جنسي السيكاه والبيات.
نلحظ أيضاً أسلوباً يقترب من أسلوب الهنك في الأدوار ، من خلال التكرار ، و التناوب في الأداء ، بين سعاد محمد والمجموعة ، عند : ثانية بالحب والصفاء ، لإعطاء زخم عاطفي للأمل!
تُختتم الأغنية ، أولاً : بدعوة أخيرة للعودة إلى الصلاة ، والترتيل ، والدعاء ، ونلحظ دائماً أن تلحين كلمة الصلاة مبدعٌ ، إذ تكرر المجموعة ذلك ، بعد سعاد محمد ، في أسلوب معمول به في الكنائس ، وكأنما هو دمجٌ لحنيٌ للصلاة ، بين المسجد والكنيسة ، وثانياً : في اجتماع سعاد مع المجموعة أخيراً ، عند : قومي الى الصلاة ، للتأكيد الأخير على المدينة المقدسة ، لتستعيد دورها المقدس!
نعم ، لقد أبدع محمود حسن اسماعيل ، في توجيه رسالته العابقة بالأمل ، إلى القدس وأهلها ، وأبدع السنباطي في تجسيد ذلك النص لحناً ، لتنقله إلينا سعاد محمد ، بأدائها الأخّاذ ، العابق بالخشوع ، والإصرار ، والأمل! ولكن الأمل لا يتحقق بالصلاة فقط بل يتطلب أيضاً ..العمل ، وهو ماغاب عن النص!