أشرتُ في نشرة سابقة ، إلى حالاتٍ كرر فيها الملحن كلماتٍ في النص ، لغايات تعبيرية ، يؤكد فيها على المعنى ، ومنها أغنية ” اسمعني لما أغني ” ، التي عرضت لها في نشرة البارحة ، من ألحان فريد الأطرش لنور الهدى ، وكلمات عبد العزيز سلام.
أتوقف اليوم عند حالة أكثر وضوحاً ، اعتمدت التصرف في النص بالتكرار ، حتى الإمكانية القصوى ، لغايات تعبيرية أيضاً ، و لكن في أغنية للسيدة أم كلثوم هذه المرة : بكرة السفر ، من كلمات أحمد رامي ، و ألحان الشيخ زكريا أحمد ، وقد وردت في سياق فيلم دنانير عام 1939 .
لنستعرض النص ، ولندقق في المذهب ، وهو المشهد المتكرر ، الذي تبتدئ الأغنية به ، ويتكرر بين الأغصان . الغريب أنه أتى مشكلاً من كلمتين فقط : بكرة السفر ، وتم تكرار الكلمتين مراراً ، لتشكيل فقرة لحنية كاملة ، تضم عدة جمل لحنية ، لغاية تعبيرية ، سأتحدث عنها لاحقاً.
النص
المذهب :
بكرة السفر
الغصن الأول
بكرة السفر ويروق بالنا * وافرح بقربك واتهنا
وان كنا نهجر أوطانّا * الحب يدّيلنا أوطان
بكرة السفر
الغصن الثاني
ياللي ملكت الروح بإيديك * طال انشغال الفكر عليك
إمتى عينيّ تناجي عينيك * لوحدنا والدنيا أمان
بكرة السفر
الغصن الثالث
ونعيش سوى والبال خالي * والجو يصفى ويحلالي
وأوصفلك اللي شغل باللي * وخلى عقلي عليك حيران
بكرة السفر
الغصن الرابع
ياما بنيت ع الحب أمال * إن كنت اخبي للعذال
وبكرة السفر ويروق البال * ويسعد القلب الولهان
بكرة السفر
الغصن الخامس
واسقي هواك من كاس حبي * واسمعك ألحان قلبي
واشوف حبيب الروح جنبي * والقلب متهني وفرحان
بكرة السفر
اللحن
اعتمدت المقدمة الموسيقية مقامَ البيات على درجة اللا ، وجاءت في قفزات لحنية حيوية ، لتعبر عن اللهفة والشوق للسفر ، وكأن الموسيقى تثب وتندفع نحو اللقاء المنشود ، ليأتي الغناء أيضاً حافلاً بالحيوية ، و بالقفزات اللحنية ، من البداية : بكرة السفر ، ومستمراً في ذلك ، مع تكرار جملة بكرة السفر ، في تقاطع مع الموسيقى ، التي تستمر أيضاً في توفير القفزات الموسيقية ، المعبرة عن الشوق واللهفة.
أُعطيت الأغصان ، في النص ، وظيفة شرح أسباب هذه اللهفة ، وكأنها اعتمدت هنا تقنية معروفة في السينما تسمى ” الفلاش باك ” ، أي الدخول في حدثٍ ما ، ثم العودة لشرح أسبابه! وهكذا يأتي الغصن الأول ، مبتدئاً من منطقة الأصوات الحادة ، على مقام البيات المحيَّر ، ليشرح أسباب اللهفة ، وأنها حتى لو هجرت وطنها ، فالحب سيعطيها وطناً جديداً. يمكن هنا التوقف عند أسلوب تلحين الشيخ زكريا لكلمتي الوطن ، في الغصن الأول : وإن كنا نهجر ” أوطانّا ” ، ثم : الحب يدّيلنا أوطان ، حيث التطريب و النبض اللحني أقوى بكثير عند كلمة ” أوطان ” الثانية ، للتعبير عن أنها الوطن ، الذي سيحتضن اللقاء والحياة المشتركة مع الحبيب ، مع ختام حيوي عندها ، سيتكرر في جميع الأغصان ، كجسر لحني بين لحن الغصن ، ولحن المذهب المتكرر : بكرة السفر.
جاء الغصن الثاني على مقام الحجاز كار على اللا ، ونلاحظ اختلاف نبض الجملة اللحنية ، الفرحة والحيوية عند : ياللي ملكت الروح بإيديك ، ليهدأ نبض الجملة ، ليعبر عن انشغال الفكر ، عند : طال انشغال الفكر عليك ، وهو ما نراه أيضاً في البيت التالي : إمتى عينيّ تناجي عينيك * لوحدنا والدنيا أمان ، في تغيرات لنبض الجملة اللحنية بين : إمتى عينيّ تناجي عينيك ، ثم استرسال اللحن عند : لوحدنا ، وكأن اللحن يعبر عن التمني ، و الرغبة في استمرار تلك اللحظة ، ليعود اللحن للحيوية والتطريب والفرح ، عند : الدنيا أمان ، وهي الجملة الحيوية التي تنهي جميع الأغصان ، للعودة إلى المذهب المتكرر ، عند بكرة السفر. نلاحظ هنا وجود حالة لتكرار الكلمات ، التي كنا شهدناها في حالة أغنية : اسمعني لما أغني لنور الهدى ، في النشرة السابقة ، إذ تكرر أم كلثوم كلمة : أمان ، في ختام الغصن ، ولكن هذا لم يكن لغاية تعبيرية ، كما في أعنية : اسمعني لما أغني ، وإنما كان لتوفير جسر لحني للعودة للمذهب : بكرة السفر. أشير هنا ، إلى أن هذا الأسلوب ، في تكرار الكلمات ، لتوفير جسر لحني ، ورد أيضاً في أغنية أخرى للشيخ زكريا ، مع السيدة أم كلثوم ، وهي أغنية : غنّي لي شويّ شويّ ، عندما تتكرر كلمة شويّ في ختام الأغصان ، كجسر لحني للعودة إلى المذهب أيضاً ، أما تكرارها في بداية الأغنية ، فقد جاء في صلب النص ، ولا يمكن عدُّه تكراراً.
الغصن الثالث عاد إلى التطريب ، في تلوين على مقامي الماهور و البيات المحير ( الأداء في منطقة الأصوات الحادة ) ، مع ملاحظة تغير نبض الجملة عند كلمة : حيران ، في بدايتها ، عند : حي ، للتعبير عن الحيرة ، ليستكمل الشيخ زكريا الكلمة ، عند : ران ، مع العودة للحيوية ، لكي ينسجم مع ما كان اختطه ، من توفيرٍ لجسر لحني حيوي ، يعود بالغناء إلى المذهب عند : بكرة السفر!
يستمر الغصن الرابع ، مبنياً على البيات المحير ، في توفير تلوينٍ عابر ، لإبراز مقام الهزام ، دون الوقوف عنده طويلاً ، وكذلك يأتي الغصن الخامس ، مع تلوينات مقامية عابرة ، فيما نلاحظ أن نبض الجملة اللحنية لم يعد يتغير ، بعد أن سيطرت عواطف السفر ، وتغلبت على بعض ملامح انشغال الفكر ، التي كنا لحظناها ، في الأغصان الأولى.
لحنٌ جميل آخر ، من ألحان الشيخ زكريا ، حافلٌ بالتطريب ، والتعبير ، و بالتركيز على منطقة الأصوات العالية ، وهي من أجمل مساحات صوت أم كلثوم ، كان من أبرز ما فيه ، تلك القدرة العجيبة ، على تشكيل مذهبٍ كامل لأغنية ، من كلمتين فقط!