أتوقف اليوم ، في سياق البحث في العلاقة بين نبض الجملة اللحنية و النص المغنى ، عند أغنية تدخَّل فيها الملحن ، لتكرار كلمات في النص ، لتحقيق نبض في الجملة اللحنية ، يكسبها غايات تعبيرية.
إنها أغنية : اسمعني لما أغني ، بصوت نور الهدى ، من كلمات عبد العزيز سلام ، وألحان فريد الأطرش ، وقد جاءت في سياق فيلم مجد ودموع ، عام 1946. تجدر الإشارة إلى أن اللحن مهدى من فريد ، كعادته دائماً ، في إهداء الألحان التي يضعها لتغنيها أصوات أخرى.
النص
المذهب
اسمعني لما أغني * وارويك من نغمي وفني
اسمعني لما أغني
**
الغصن الأول
الكروان جـه خذ مني أنغامه * والبلبل بيقلدني في كلامه
ده أنا صوتي يهز الدوح * وغُنايا يرد الروح
**
الغصن الثاني
لو أغني وأقوَّلك آه بحناني * ح تقوللي الله كمان من تاني
ويعيش قلبك متهني * والدنيا معايا تغني
قام فريد الأطرش ، بتكرار كلمة اسمعني عدة مرات ، للتعبير عن إصرار نور الهدى ، في فيلم مجد ودموع ، على الشخص الذي سيقرر قبولها ، لكي يسمع أداءها. طبعاً تجدر الإشارة هنا ، إلى أن وزن النص الشعري كان مكتملاً ، قبل تكرار كلمة اسمعني ، ما يؤكد أن تكرارها جاء من الملحن ، ولغاية تعبيرية ، فيما لا ينطبق هذا على تكرار كلمة : شوي ، في أغنية : غنّي لي شويّ شويّ * غنّي لي وخد عينيّ ، مثلاً ، لأن النص مكتمل الوزن بوجود التكرار ، أي أن التكرار هنا ، جاء في أصل النص.
جاء لحن المذهب على مقام الراست في البداية ، ولكنه اختُتم ، على غير العادة ، عند تكرار : اسمعني لما أغني ، من خلال المرور على مقام النوأثر اولاً ، مع ما فيه من عاطفة ، فمقام النهاوند ، وذلك أيضاً لغاية تعبيرية ، فبعد الإصرار ، يأتي نوع من الاستعطاف من خلال ذلك التحول.
ولما كان الموقف له صبغة كوميدية ، فقد أتت الموسيقى بعد المذهب ، ذات جملة لحنية خفيفة ، بل ومتداولة ، بحسبان أن الموسيقيين يؤدونها دون أي تدريب مسبق ، فيما تعزز الصورة ذلك ، بأن يشير المخرج على الموسيقيين ، لأداء الموسيقى ضاحكين!
الغصن الأول جاء أولاً على مقام الراست أيضاً ، لينتقل إلى مقام البيات الشجي ، عند ذكر صوتها : ده أنا صوتي يهز الدوح * وغُنايا يـــــرد الروح ، في جمل تطريبية.
تمهد الموسيقى للغصن الثاني بجمل لحنية انسيابية ، على مقام الحجاز ، تذكر بما كان يمهد به فريد لغناء شقيقته أسمهان المرسل ، ليأتي أداء نور الهدى المرسل قريباً من أسلوب أسمهان ، عند : لو أغني وأقوَّلك آه بحناني * ليتقاطع الغناء مع الموسيقى ، في أجواء يلوح فيها طيف أسمهان بوضوح ، مع اختتامٍ للموسيقى على مقام الشد عربان ، إلا أن نور الهدى ، وفي الشطرة التالية ، تبتعد قليلاً عن أسلوب أداء أسمهان ، مقتربة من أسلوبها الخاص في أداء الموال ، عند : ح تقوللي الله ، كمان ، من تاني ، خاصة أن النص ، يتطلب ذلك ، إذ أنه يتضمن عرضاً للأسلوب المتداول ، للتعبير عن استجابة الجمهور ، من خلال إطلاقه ، في سياق النص ، لكلمات تعبر عن الاستحسان ، كلفظ الجلالة : الله ، أو : كمان! وبعد عودة إلى مقام البيات والتطريب، عند : ويعيش قلبك متهني * والدنيـــــــــــــا معايا تغني ، تختتم الأغنية بالعودة إلى المذهب.
تجدر الإشارة إلى أن التسجيل المتداول للفيلم فيه انقطاع تام للصوت عند لفظة : كمان ، بغياب حرفي الكاف والميم منها . ولما كنت أفضل دائماً نشر الفيديوهات بأفضل جودة ممكنة ، فقد قمتُ بالبحث عن الحرفين في خلايا الأغنية ، و إدماجهما في التسجيل عبر المونتاج. طبعاً لم يكن العثور على حرف الميم ، مع تحريكه بالفتحة ، كما في كلمة : كمان ، صعباً ، لكثرة تكراره في النص ، ولكن حرف الكاف كان أصعب منالاً ، إذ أنه موجود فقط في كلمة : الكروان ، ومع ذلك أمكن إدماجه ، بحيث استعدنا الأغنية دون انقطاعات في الصوت ، ويمكن مقارنة التسجيل المنشور هنا ، مع النسخ المتداولة لفيلم مجد ودموع ، أو للأغنية ، للتمعن في هذه العملية ، ومدى نجاحها.
في نشرة أخرى ، أتوقف عند حالة أكثر وضوحاً ، اعتمدت التصرف في النص بالتكرار حتى الإمكانية القصوى ، لغايات تعبيرية ، و لكن في أغنية للسيدة أم كلثوم هذه المرة!
كل الشكر للأستاذ الدكتور سعدالله آغا القلعة على هذا الإنجاز العظيم والذي تعجز عنه دول ومؤسسات
كل الشكر للدكتور سعدالله آغا القلعة على هذا الجهد الكبير في توثيق وتحليل أعمال فناني عصر النهضة العرب ومحاولته البحث في الأسباب الموضوعية لتلك النهضة