أشرتُ في نشرة سابقة ، إلى أن نص أغنية سـألوني الناس ، للسيدة فيروز ، كُتب من قِبَل منصور رحباني ، متوافقاً مع نبض الجملة اللحنية ، الموضوعة سابقاً من قبل زياد ، وليس مع الإيقاع الموسيقي فقط ، فالإيقاع الموسيقي ، كالوزن الشعري ، له صفة التكرار ، فيما تغيرات نبض الجملة اللحنية ، في سياق ذلك الإيقاع الموسيقي ، تُكسب اللحن حيوية ، تؤكدها اختيارات الكلمات في النص ، إن توافقت في نبض ألفاظها مع نبض الجمل اللحنية ، و قلتُ حينها بأن هذا يكشف أحد أهم عناصر التلحين والتأليف عند الأخوين رحباني ، بحسبان كونهما شاعرين وملحنين في الوقت ذاته ، في تحقيق التوافق الأمثل بين لفظ الكلمات ، ليس مع الإيقاع الموسيقي فحسب ، وإنما مع نبض الجملة اللحنية ذاتها!
و تساءلت في ختام المقال : ماذا يفعل ملحنٌ وضع لحناً دون كلمات ، ولم يكن في الوقت ذاته شاعراً ، أو قادراً على الوقوع على شاعر ، يكتب له نصاً يلائم ذلك اللحن ، و يتوافق مع نبض جمله اللحنية ؟ الإجابة أتت في أحد أخبار كتاب الأغاني ، لأبي الفرج الأصفهاني ، وإليكم الخبر كما ورد في الجزء الثامن عشر من الكتاب :
قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبيه قال: صنعتُ لحناً فأعجبني ، وجعلتُ أطلب شعراً فعسر ذلك علي ، ورأيت في المنام كأن رجلًا لقيني فقال: يا إبراهيم ، أأعياك شعر لغنائك هذا الذي تعجب به. قلت نعم، قال: فأين أنت من قول ذي الرمة حيث قال:
ألا يا اسلمي يا دارَ ميٍ عن البِلى * ولا زال منهلاً بجرعائك القطْرُ
قال: فانتبهتُ وأنا فرح بالشعر، فدعوت من ضرب عليَّ وغنيته ، فإذا هو أوفق ما خلق االله.
ومما يثير الاستغراب ، من حيث المبدأ ، أن هذه الأبيات أتت على البحر الطويل ، وما أكثر القصائد في الشعر العربي، التي جاءت على البحر الطويل ، فلِمَ لم تتلاءم مع لحن ابراهيم الموصلي ، الذي كان وضعه أولاً ، ثم بحث له عن نصٍ ملائم ؟
الخبر الوارد في كتاب الأغاني يعطينا مفتاحاً لفهم الموضوع ، وهو لا يختلف أبداً عن حالة أغنية سألوني الناس. وفي الواقع ، فإن جملة : أوفق ما خلق الله ، التي برر بها إبراهيم الموصلي سبب اعتماده لهذا النص ، هي المفتاح ، إذ يقصد توافق نبض الألفاظ في القصيدة ، ومواقع المد الممكن في أحرفها الصوتية ، مع نبض الجملة اللحنية ، في اللحن الذي وضعه.
سأحاول شرح الموضوع بأبسط طريقة ممكنة:
لو دققنا في البيت الوارد أعلاه ، لوجدنا أنه يتضمن 8 أحرف صوتية ( ألف أو ياء أو واو ) ، قابلة للمد أثناء الغناء . فيما لو أخذنا قصيدة أخرى على البحر الطويل ، لقيس بن الملَّوح مثلاً:
أَسِرْبَ القَطا هَلْ مَنْ يُعِيْرُ جَناحَهُ *** لَعَلِّي إِلَى مَنْ قَدْ هَوِيْتُ أَطِيْرُ
لوجدنا في هذا البيت 4 أحرف صوتية فقط قابلة للمد ، وفي مواقع تختلف عن مواقع وجودها في البيت الأول أعلاه . فلندقق ذلك في بداية كلٍّ من البيتين فقط ، بعد كتابتها عروضياً ، مع إيضاح التفعيلة الموافقة:
البيت الأول : ألا يا اسلمي يا دار ميِّ على البِلا ، وبدايته تُكتب عروضياً كما يلي : ألا يس ( فعولن ) لمي يا دا (مفاعيلن)
أما البيت من القصيدة الثانية : أَسِرْبَ القَطا هَلْ مَنْ يُعِيْرُ جَناحَهُ ، فتُكتب بدايته عروضياً كما يلي : أسِر بَلْ ( فعولن ) قطا هلْ مِنْ (مفاعيلن )
وبالمقارنة السريعة ، نجد أن مواقع الأحرف الصوتية ، التي تسمح بمد اللحن ، غير متماثلة ، مع أن البحر الشعري واحد ، ففيما يسمح البيت الأول بالمد عند ألا ، لمي ، يا ، دا ، فإن البيت من القصيدة الثانية لا يسمح بالمد إلا عند : قطا!
وبالتالي إذا كان اللحن موضوعاً سلفاً ، فلابد من نصٍ ، يتحقق فيه أحد الشرطين التاليين ، إما أن تتوافق مواقع الأحرف التي تسمح بالمد ، أو الخطف فيه ، مع مواقع المد والخطف في الجملة اللحنية الموضوعة سلفاً ، وهو ما أسميه في الإجمال : نبض الجملة اللحنية ، أو أن تكون كثافة الأحرف الصوتية التي تسمح بالمد والخطف كافية لتحقيق التوافق المطلوب ، وهو ما نلاحظه في القصيدة الأولى التي أعطت ، من خلال كثافة الأحرف الصوتية فيها ، مجالاً أوسع للتوافق مع نبض الجمل اللحنية ، من القصيدة الثانية ، رغم أن كلتا القصيدتين من البحر الطويل!
لعلنا نكتشف هنا ، سبب انصراف الملحنين عن تلحين الفصحى ، وتفضيلهم العامية ، لأنها تتسامح مع المد حيث يلزم ، بغض النظر عن وجود أحرف صوتية أو غيابها ، ما جعل تلحين الفصحى مغامرة ، لايُقدم عليها إلا الراسخون في علم الموسيقى ، و ما أندر وجودهم اليوم!
أشير في هذا السياق ، إلى أن العالم العربي ، كان قد مر بفتراتِ ، تسامح فيها في مدود الفصحى ، في غير مواقع المد ، ولكنه عاد ، مع نهوض الشعور القومي ، في بداية الثلاثينات من القرن العشرين ، وعودة الاعتبار للفصحى ، للتقيد بقواعد تلحينها ، لتغيب الفصحى لاحقاً ، بسبب قيودها ، وكذلك مع نمو المشاعر القطرية ، للأسف!
ولكن ، هل تبقى مواقع الأحرف الصوتية ثابتة ، مع تتالي الأبيات في القصيدة التي يتم اختيارها ؟
نعم .. في الواقع فإن مواقع الأحرف الصوتية تتبدل ، في الأبيات المتتالية ضمن القصيدة الواحدة والبيت الشعري الواحد ، وهذا في حد ذاته غنى كبير ، لأنه هو الذي يسمح بتلوين نبضات الجمل اللحنية ، و توليد حيويتها. للمزيد حول الموضوع
ولكن هذا الخبر العابر يطرح أسئلة لا تنتهي ، عابرة للحقب الزمنية ، أورد بعضها هنا:
- هل كان نظام بحور الشعر ، الذي وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي ، وأسلوب التقطيع العروضي المرتبط به ، و المعتمد على الحروف المتحركة والساكنة فقط ، كافياً للشعراء ، ولكنه لم يكن كافياً لتعريف العناصر الموسيقية في القصائد ، ومنها الأحرف الصوتية ، و بالتالي لم يكن يسمح بالتمييز بين تلك القصائد أمام الملحنين؟ وإذا كان الأمر كذلك .. فماذا ينقصه؟ وهل يمكن استدراك ذلك؟
- هل أسهم هذا الواقع في توجيه الملحنين إلى قصائد ليست من عيون الشعر لتلحينها مكتفين بملاءمتها للتلحين؟ و هل كان ذلك أحد أسباب أن الأغاني المائة المختارة ، التي وثق لها كتاب الأغاني ، لم تكن من عيون الشعر ، كما سبق و قلت في نشرة سابقة؟
- هل تسبب هذا الواقع ، إلى جانب أسباب أخرى ، في توجيه الملحنين إلى تلحين الأزجال بالعامية ، الحافلة بالأحرف الصوتية ، والتي تتسامح في مد الأحرف الساكنة ، على حساب توجههم إلى تلحين القصائد؟
- هل تسبب هذا ، إلى جانب أسباب أخرى ، في تأسيس ثنائيات ، تشكلت من شاعر وملحن ( بيرم التونسي و زكريا أحمد – أحمد رامي و محمد القصبجي .. ) إذ أدرك بعض الشعراء حاجات الملحنين ، فأدخلوها في حسبانهم أثناء صياغة أشعارهم؟
- هل كان هذا أحد أسباب تميز الأخوين رحباني كشعراء وملحنين في الوقت ذاته؟
والقائمة طويلة!