سبق أن درستُ لحن زوروني كل سنة مرة ، وبينتُ أن النسخة التي اعتمدعليها القائلون ، بأن اللحن للشيخ عثمان الموصلي ، تضمنت في خلاياها ما ينفي ذلك ، إذ لم تحقق التوافق المطلوب بين إيقاع اللفظ والشعر من جهة ، مع إيقاع اللحن ، من جهة أخرى ، بل وصل الأمر إلى إضافة كلمة لا مبرر لوجودها في النص ، لإكمال الجملة اللحنية ، ما أكد أن هذه النسخة ، اعتمدت على لحن كان وضعه سيد درويش لنص الأغنية ، و حقق فيه التوافق بين النص واللحن!
ذكرني هذا بحالة مماثلة ، أي حالة كتابة نص على لحن سابق ، وفق مبدأ القدود ، الذي كنت شرحته في نشرة سابقة أيضاً ، ولكنها حالة حققت توافقاً كاملاً بين النص واللحن ، إيقاعياً وتعبيرياً ، إنها حالة أغنية سألـوني الناس ، التي غنتها فيروز في دمشق ، في مثل هذه الأيام من صيف عام 1973 ، على مسرح معرض دمشق الدولي ، وكانت أولى الأغاني التي لحنها ابنها زياد!
كان عاصي رحباني يمر بأزمة صحية شديدة ، أبعدته عن دوره الرئيس في المجموعة الرحبانية ، وكانت مسرحية المحطة ستعرض أولاً على مسرح البيكاديلي ، في 27 شباط من عام 1973 ، ومنها التسجيل الذي أنشره اليوم ، ثم على مسرح معرض دمشق الدولي ، في صيف ذلك العام . أراد باقي أفراد المجموعة ، بقيادة منصور رحباني ، تقديم عمل فيه تحية لعاصي الغائب عن العمل ، والمشارك بلحن واحد ، كان لحنه أثناء رحلة العلاج لفرنسا : ليالي الشمال الحزينة.
عرض زياد لحناً كان وضعه لكلمات أخرى ( أخذوا الحلوين قلبي وعينيي ) كان من المفروض أن يغنيها مروان محفوظ ، فأُعجب منصور وفيروز به ، ليضع منصور له كلاماً على قدِّ اللحن ، فتغنيه فيروز. كان هذا أول لحن يضعه زياد وتغنيه فيروز ، كما أنها الحالة الأولى المعروفة من هذا النوع في الإطار الرحباني ، خارج مساري إعادة تقديم التراث ، و تعريب ألحان شهيرة في الغرب : لحنٌ يوضع أولاً ، ثم يوضع له كلام يناسبه تعبيراً و إيقاعاً ، ومع أنه من المحتمل أن تكون هذه الحالة قد وردت ، في سياق تعاون الأخوين رحباني ، وكلٌ منهما شاعر وملحن ، ولكن تلك الحالات بقيت طي الكتمان ، إلا هذه الحالة ، التي عُرفت ، بسبب ظروفها.
شرح النص
عبَّر النص في كلماتٍ عن مشاعر عديدة : جماهيرية عاصي الكبيرة ، القلق ، الأمل ، الحسرة ، والشوق المتبادل بين زوجين! فبدأ بالناس التي تسأل عن عاصي ، ما يذكر بالمكانة الكبيرة لعاصي عند جمهوره العريض ، ويعبر عن القلق على حالته ، ليأتي الهواء فيأخذ المكاتيب ، في تعبير عن القلق وعدم التأكد من مآل حالة عاصي ، لينتقل مباشرة إلى: لأول مرة ما منكون سوا ، أي إلى خصوصية العلاقة في إطار المجموعة الرحبانية ، وافتقاد فيروز لوجود عاصي . بالمقابل ، حمل الغصن الثاني الأمل بعودة عاصي : قلتلهن راجع ، أما الغصن الأخير ، فقد عبر عن حال عاصي ، إذ يقول : ضوي لي ، ويشرح حالته الصحية : لاقاني الليل وطفّا قناديلي ، لكنه يؤكد أن قلبه كان دليله إليها ، وأنه اكتوى بالشوق : واللي اكتوى بالشوق اكتوى لأول مرة ما منكون سوا ، وهي العبارة التي كانت غنتها فيروز ، على أنها لسان حالها ، ما حقق التوازن العاطفي بين الزوجين!
من المهم جداً هنا أن أؤكد ، على أن النص كُتب من قبل منصور رحباني ، متوافقاً مع نبض الجملة اللحنية ، الموضوعة سابقاً من قبل زياد ، وليس مع الإيقاع الموسيقي فقط ، فالإيقاع الموسيقي ، كالوزن الشعري ، له صفة التكرار ، فيما تغيرات نبض الجملة اللحنية ، في سياق ذلك الإيقاع الموسيقي ، تكسب اللحن حيوية ، تؤكدها اختيارات الكلمات في النص ، إن توافقت في نبض ألفاظها مع نبض الجمل اللحنية ، وهذا يكشف أحد أهم عناصر التلحين والتأليف عند الأخوين رحباني ، بحسبان كونهما شاعرين وملحنين في الوقت ذاته ، في التوافق الأمثل بين لفظ الكلمات ، ليس مع الإيقاع الموسيقي فحسب ، وإنما مع نبض الجملة اللحنية ذاتها!
النص :
سألـوني الناس عنك يا حبيبي * كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا
بيعز عليي غني يا حبيبي * لأول مرة ما منكون سوا!
****
سألـوني الناس عنك سألوني * قلتهن راجع أوعى تلوموني
غمضت عيوني خوفي للناس * يشوفوك مخبى بعيوني!
******
طل من الليل قال لي ضوّي لي * لاقاني الليل وطفّا قناديلي
ولا تســـأليني كيف إستهديت * كـــان قلبي لــعندك دلـيـلي
واللي إكتوى بالشوق إكتوى * لأول مرة مــــــا منكون سوا
وهب الهوا و بـــكــاني الهوا * و لأول مرة ما منـكون سوا
اللحن
التزم زياد في هذه الأغنية ، بالخط اللحني العام للأخوين رحباني ، مع ميلٍ لأسلوب فيلمون وهبة ، الشرقي الأصيل ، فيما نجده لاحقاً يتخلى عن هذا المسار ، مع فيروز ، في أعمال لاحقة ، وخاصة بعد وفاة والده.
جاء اللحن على مقام البيات الشرقي ، والتزم فيه زياد بمسار المقام اللحني ، فلم يعتمد أي تلوينات مقامية ، ولكنه بالمقابل اعتمد مبدأ التفاعل اللحني ، إذ نجد أن بداية لحن الغصن الأول عند : سألوني الناس عنك سألوني ، تأتي متوافقة مع لحن بداية الأغنية : سألوني الناس عنك يا حبيبي ، ولكن اللحن سرعان ما ينطلق في مسار لحني جديد ، متفاعل مع لحن المذهب ، وهو ما يعكس غنى الخيال الموسيقي عند الشاب اليافع زياد ، البالغ من العمر 17 عاماً و أياماً معدودة ، عند أداء الاغنية.
المهم هنا أيضاً ، أن الإيقاع الشعري وإيقاع الألفاظ توافقا تماماً مع إيقاع اللحن الموضوع سلفاً ، وهذا يحسب لمنصور ، كما يجب أن نتوقف عند توفير منصور لكلمات تنسجم تعبيرياً مع تضاريس اللحن الموضوع سلفاً ، إذ نجد التخافض اللحني المعبر عن الحسرة عند : أخدها الهوا ، و عند : ما منكون سوا ، و عند : طفّا قناديلي ، أما تصاعد الاستنكار ، فموجود عند : لأول مرة ، ليتخافض اللحن للتحسر عند : ما منكون سوا!
كانت هذه المرة الأولى ، في نصٍ لمنصور ، التي تظهر فيها فيروز ، بشخصية الزوجة التي تغنّي لزوجها (بيعز عليي غني يا حبيبي ) ، ما حولها لتكون على المسرح شخصية حقيقية ، وهو الخط الذي التقطه زياد ، إذ قدمها لاحقاً في شخصيتها الحقيقية ، في أغنية أنا صار لازم ودعكن!
تعاون أعضاء المجموعة الرحبانية جميعهم في هذه المسرحية ، إذ وضع زياد أيضاً موسيقى مقدمة الفصل الثاني ، فيما قاد عمه الياس رحباني الأوركسترا!
بعد مسرحية المحطة ، شارك زياد في مجدداً في قصيدة حب عام 1973 ، بأغنية : قديش كان في ناس ، لتتتالى أعماله مع والدته لاحقاً .
التسجيل النادر الذي أنشره اليوم ، مقتطف من مسرحية المحطة ، في أول عرض لها في شباط / فبراير 1973 ، على مسرح البيكاديللي في بيروت.
ولكن ، ماذا يفعل ملحنٌ وضع لحناً دون كلمات ، ولم يكن في الوقت ذاته شاعراً ، قادراً على كتابة نص يلائم ذلك اللحن ، و يتوافق مع نبض جمله اللحنية ؟ الإجابة أتت في أحد أخبار كتاب الأغاني ، لأبي الفرج الأصفهاني ، و لهذا حديث آخر!
تحديث :
كتب لي يسأل:
دكتور.. ألا يعتبر منصور هو الملحن الحقيقي(النهائي) للأغنية للأسباب التي ذكرتَها وأحاطت بظروف اللحن؟ شاهدتُ لقاء لزياد بداية التسعينات يذكر بشكل مقتضب أن منصور هو الملحن حيث اضاف لوازم وضبط الايقاع والكلام، قال زياد بما معناه “هي كانت موسيقى بتدق براسي بس”.
وكانت إجابتي:
هناك روايات متعددة لما قاله زياد حول الأغنية في مناسبات مختلفة ، منها هذه الرواية : موسيقى كانت بتدق براسي ، و منها أن اللحن كان قد وضع لكلمات أغنية كان سيغنيها مروان محفوظ ( كما ورد أعلاه ).
على كل حال ، لاشك في أن منصور أجرى عملية تفاعلية وتبادلية بين النص واللحن ، حتى توصل إلى الشكل النهائي للأغنية ، وهذا واضح من مقارنة لحن أغنية أخذوا الحلوين ، كما أداها محفوظ في إحدى المقابلات ، و بين لحن سألوني الناس!