النشرة السابقة في هذه المجموعة المخصصة لنجاة الصغيرة : الطفلة نجاة تفتتح مساراً غنت فيه 275 أغنية لُحنت لها ، فتغني على مسرح معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية أولى تلك الأغاني ، وعمرها 4 سنوات!
أشرتُ في نشرة سابقة ، في سياق هذه النشرات ، التي أخصصها للاحتفاء بمرور 75 عاماً على دخول السيدة نجاة الصغيرة عالم الغناء ، أنها درجت ، في بداية مسيرتها الفنية ، على إعادة تقديم أغاني السيدة أم كلثوم ، ما تسبب في أن أداءها ، و طريقة إطلاقها لصوتها ، كانا قريبين من أداء و طريقة السيدة أم كلثوم ، التي اعتمدت دائماً ، الصوت الصادر من الحنجرة ، بشكل كامل ، مع الإشارة إلى أن طبيعة صوت نجاة ، حتى في طفولتها ، كانت تداخلها لمحات من الدفء والحنان ، لم تكن ظاهرة تماماً ، في ظل الاهتمام بتقليد أداء السيدة أم كلثوم.
فيما بعد ، وبعد أن كبُرت الطفلة ، و تطورت عواطفها ومشاعرها ، بدأت تلك الملامح الحنونة والدافئة تتمظهر بشكل أوضح ، وخاصة بعد أن سيطرت على مضامين أغانيها ، شخصية الفتاة الضعيفة أمام الحبيب ، التي شكلتها قصائد نزار قباني ، وما تلاها من مضامين ، سارت في النهج ذاته ، وصولاً إلى قصيدة أسألك الرحيلَ ، التي سيطرت فيها تلك الملامح تماماً ، مع ما يستلزمه ذلك من إشراكٍ لصوت الرأس في الأداء.
لو عدنا مثلاً إلى النشرة قبل السابقة ، التي عرضتُ فيها لأغنية ع الحلوة والمرة ، والتي كانت نجاة قد أدتها وهي في السادسة عشرة من عمرها ، لوجدنا أن صوتها في تلك المرحلة ، كان لا يزال متأثراً بأسلوب أداء السيدة أم كلثوم ، مع ملامح من الدفء والحنان ، كانت قد بدأت تظهر ، فيما لو تتبعنا أغنية اليوم ، وقد غنتها قبل أغنية ع الحلوة والمرة بأربع سنوات ، لوجدنا أن سيطرة أسلوب أم كلثوم كانت لا تزال أوضح بكثير.
أغنية يا حبيبَ الله والناس
فلنأت الآن إلى هذه الأغنية : يا حبيب الله والناس ، وهي أغنية دينية ، كتبها صالح جودت ، و لحنها رياض السنباطي ، و أتت في سياق فيلم محسوب العائلة من أعمال عام 1950.
ومن البداية ، كان مفاجئاً أن يقبل رياض السنباطي التلحين لصبيةٍ عمرها لا يزيد عن 12 عاماً ، ولعل ما يشفع له في هذا، أنها كانت قد حققت شهرة كبيرة ، وخاصة في مجال تقليد السيدة أم كلثوم ، فلنتتبع الأغنية إذاً وندقق ، هل كان أداؤها في تلك الفترة المبكرة ، لا يزال متأثراً بتقليدها لأسلوب أداء أم كلثوم؟
في الواقع ، نعم ، أسلوبُها في أداء هذه الأغنية متأثرٌ بوضوح بأسلوب أداء أم كلثوم ، وشخصية صوتها القوية القادرة ، وإن كان يداخل أداء نجاة شخصية صوتها الأصلية ، المضمخة بالحنان والخشوع ، وهي التي سيطرت لاحقاً على أدائها ، مع نضوج شخصيتها الفنية الخاصة التي اعتمدتها لاحقاً.
اللحن
جاء اللحن حيوياً عابقاً بالحب ، معبراً عن بداية النص: يا حبيب الله والناس ، متصاعداً للتعبير عن النداء ، وقد بُني على قالب الطقطوقة المطوّرة ، أي المشكّلة من مذهب ذي لحنٍ متكرر ، و أربعة أغصان ، لكل غصنٍ منها لحنه الخاص ، مع ختام متكرر في الجملة الأخيرة من كل غصن ، عند : وإليك صلواتي وسلامي ودعائي ، تمهيداً لتسليم المجموعة الدخول في المذهب المتكرر: يا حبيب الله والناسِ و يانور السماء * يامجيري من مصيري يا أمير اﻷنبياء
جاءت أغنية يا حبيب الله والناس ، التي كتب نصها الشاعر صالح جودت ، على مقام العراق ، وهو مقام قليل الاستعمال ( مشكل من جنسي السيكاه والبيات ) ، والتزم فيها رياض السنباطي ، مقامياً ، بتلويناتٍ تعتمد جميعها على جنس السيكاه كأساس ، مع جنس البيات ، في المذهب المتكرر ، والغصن الثاني ، و جنس الحجاز في الغصن الأول والثالث ، و جنس الراست في الغصن الرابع ، مع ختامٍ على جنس البيات ، أي أنه بقي في أجواء المقام الأصلي عموماً ، وهذا أسلوب السنباطي الدائم ، في الغوص عميقاً في خلايا المقام الواحد وأجناسه المتنوعة ، لاستكشاف إمكانياته ، خاصة أن المشاعر المسيطرة واحدة ، في مديح الرسول صلى الله عليه وسلم ، مع السعي لتطوير اللحن شيئاً وشيئاً ، في تصاعد لحني متدرج ، يواكب تطور المشاعر الفياضة ، حتى الوصول إلى الذروة في الغصن الرابع من الأغنية.
نلاحظ أن النص يشير إليها مباشرة : أنا غنيتُ بذكراك صباحي ومسائي ، وبذكراكَ انتشت روحي فأبدعت غنائي ، ما يدل على أن الأغنية كتبت لها ، كما نلاحظ أن مجموعة الكورس وهي مشكلة من الرجال ، وجدت صعوبة في أداء الأصوات العريضة ، وخاصة في ختام المذهب المتكرر ، وذلك لتأمين طبقة موسيقية للأغنية تلائم صوت نجاة ، وهو ما كنت توقفت عنده في نشرات سابقة باستفاضة ، عند مناقشة النسخ المتعددة لموشح ملا الكاسات ، ونجد إثباتاً هنا ، لما سبق وقلتُه حينها ، من صعوبة ضبط الطبقة الموسيقية بين الكورس المشكل من الرجال ، عندما تؤدى الأغنية من قبل سيدة. ومما يؤكد أن اختيار الطبقة الموسيقية كان مجال دراسة دقيقة من رياض السنباطي ، أن نجاة تصل أيضاً ، إلى حدود الأصوات العريضة في صوتها ، عندما تختتم الأغنية.
قمتُ بتحويل التسجيل الصوتي للأغنية ، وهو التسجيل الوحيد المتوفر ، إلى فيديو ، من خلال إضافة تسجيلٍ بصري للحرم النبوي الشريف.
التسجيل الأصلي لهذه الأغنية يعود لعام 1950 ، وهذا موثق لأنه ورد ضمن فيلم محسوب العائلة ، الذي عُرض عام 1950 ، ولكن الفيلم مفقود ، ولذا ، ولأن صوت نجاة في التسجيل يبدو وكأنه لصبية عمرها أكبر من 12 سنة ، فهناك احتمالان : إما أن صوتها كان قد نضج بشكل أسرع من قريناتها، أو أنها لاحقاً قامت بإعادة تسجيل الأغنية ، وهو التحليل الأقرب للدقة ، والله أعلم!
نص المذهب الذي يتكرر أيضاً بعد كل غصن من أغصان الأغنية:
يا حبيبَ الله والناسِ ويا نورَ السماء * يا مجيري من مصيري يا أميرَ الأنبياء
الغصن الأول:
يا حبيباً لستُ أخشى فيه عينَ الرقباء * أتمنّاه ويمنعني عنه حيائي
هو في الشدة عوني وهو في الليل ضيائي * وعليه صلواتي وسلامي ودعائي
الغصن الثاني:
يا شفيعي يوم يُسأل عني شفعائي * أنا غنيتُ بذكراك صباحي ومسائي
وبذكراكَ انتشت روحي فأبدعتُ غنائي * وإليك صلواتي وسلامي ودعائي
الغصن الثالث:
وعلى بابكَ يا أحمدُ ألقيتُ رجائي * وعلى نوركَ يا أحمدُ ألفيتُ هنائي
كلما أشقى أناديكَ فينزاح شقائي * وإليك صلواتي وسلامي ودعائي
الغصن الرابع:
يا بشيرَ المسلمينَ المؤمنينَ الأتقياء * إن تكن عني رضِيّاً فأنا في السعداء
يا مجيري من مصيري يا أميرَ الأنبياء
يا حبيبَ الله والناسِ ويا نورَ السماء * يا مجيري من مصيري يا أميرَ الأنبياء