سبق أن أشرتُ إلى أن السيدة نجاة الصغيرة ، وبتشجيع من أسرتها الفنية ، غنت لأول مرة في حفلة عام 1942 ، وكان عمرها 4 سنوات ، ثم غنت لأول مرة في حفلة عامة عام 1946 ، و ظهرت في السينما لأول مرة ، وعمرها تسع سنوات ، و نشرت المجلات صورها الملونة على أغلفتها ، وهي بعد صبية صغيرة ، وكان من الطبيعي أن تحقق هذه الشهرة ، عبر تقديم أغنيات ، كانت لُحنت لغيرها ، ومنها أغنيات للسيدة أم كلثوم ، كانت تقدمها في الحفلات ، دون أن تعتمدها الإذاعة ، أو تُقدم في السينما ، لأنها اعتبرت من حقوق المغنين ، الذين سبق وقاموا بأدائها.
بالمقابل غنت نجاة بعض الأغنيات لملحنين مغمورين نسبياً ، لم تحتفظ بها ذاكرة الغناء العربي ، و أغنيات من ألحان ملحنين كبار ، آمنوا بها منذ البداية ، وهذا ما سأتوقف عنده في النشرات التالية ، أما اليوم ، فسأتتبع ظاهرة واضحة في بداياتها ، وهي إقدامها على إعادة تقديم أغنيات ، سبق أن اشتهرت بأصوات أخرى ، و لكن بشكل مقبول مؤسساتياً هذه المرة ، إذ سُجلت تلك الأغنيات لصالح الإذاعة أو السينما! أورد فيما يلي أمثلة على ذلك :
كانت شادية قد غنت أغنية أوصفولي الحب ، من كلمات مأمون الشناوي ، وألحان محمود الشريف ، في فيلم : مغامرات إسماعيل ياسين من إنتاج عام 1954 ، فأعادت نجاة تسجيلها للإذاعة في العام ذاته ، وكذلك فعلت مع أغنية : ع الحلوة والمرة ، من كلمات سيد مرسي وألحان محمود الشريف أيضاً ، وكان سجلها المطرب الشهير عبد الغني السيد للإذاعة ، فأعادت نجاة تسجيلها ولكن للسينما هذه المرة ، في سياق فيلم بنت البلد 1954 ، وكان عمرها 16 عاماً ، و مع الأغنية الدينية : قل ادع الله ، من كلمات زكى الطويل وألحان كمال الطويل ، وكانت غنتها شادية في فيلم اشهدوا يا ناس عام 1953 ، وأعادت نجاة تسجيلها ، للإذاعة هذه المرة ، عام 1954 ، لتتابع هذه الظاهرة ، فتعيد تسجيل أغنية : ليه خلتنى أحبك ، لصالح الإذاعة ، عام 1955 ، من كلمات مأمون الشناوي وألحان كمال الطويل ، وكانت بدأت ليلى مراد بتسجيلها لصالح فيلم الحبيب المجهول ، الذي كان سيعُرض في العام ذاته ، ما حرض سجالاً قضائياً ، و بدا في إجماله محاولة من نجاة لمنافسة شادية وليلى مراد! ، وهو ما نجح فعلاً ، إذ قرر الأستاذ محمد عبد الوهاب ، أن يلحن لها ، ابتداءاً من عام 1954 تحديداً ، فلحن لها أولاً عملاً وطنياً هو : دلوقتي أو بعدين ، ثم عملاً عاطفياً وهو : كل ده كان ليه ، من كلمات مأمون الشناوي ، لتسجله بصوتها ، ثم ليتردد عبد الوهاب ، و يسجل الأغنية بصوته ، ويطلق نسخته أولاً ، ثم نسختها ، في العام ذاته!
بالتدقيق نلاحظ أن هذه الحركة بدأت عام 1954 ، وأنها كانت بين احتمالين : إن كانت الأغنية قد سجلت للإذاعة أولاً ، فعندها تقوم نجاة بإعادة تسجيلها للسينما ، أو العكس ، إن كنت سجلت للسينما ، فتعيد نجاة تسجيلها للإذاعة!
السؤال الذي يطرح نفسه : ما الأساس الذي سمح بهذا؟ وإليكم الإجابة :
إنه القانون رقم 354 ، الذي صدر في القاهرة ، عام 1954 ، لحماية حقوق المؤلفين والملحنين والناشرين ، إذ قرر أن للمؤلف والملحن وحدهما تحديد طريقة نشر أعمالهما ، وأبعد أي حق أدبي وفكري للمؤدي ، في العمل الذي يؤديه ، ليبقى حقه في أجر التسجيل الذي يتقاضاه ، كما ضمِن للمؤلف والملحن ، والناشر أو المنتج ، عائدات مالية ، عن كل نسخة من نسخ الأغنية ، تباع أو تبث.
أسهم هذا القانون في تشجيع إعادة تقديم الأعمال الغنائية بأصوات أخرى ، وكانت نجاة من أوائل المستفيدات ، إذ كانت لا تزال في بداياتها ، وكان سهلاً عليها الدخول في هذه المغامرة ، بعد أن أصبح من الممكن للملحن ومؤلف الكلمات السماح بإعادة تقديم الأغنية بصوت آخر ، وهكذا كان!
تجدر الملاحظة هنا ، أن هذا القانون شجَّع الملحنين على إعادة تسجيل ألحانهم ، بأصوات متعددة ، إذ أن عائداتهم المالية ستزداد ، وكان محمد عبد الوهاب ، السبّاق في التقاط الأفكار والفرص ، هو الأول في التقاط هذه الفكرة ، وهذا ما يفسر تأجيله لنسخة كل ده كان ليه ، بصوت نجاة ، ونشره الأغنية بصوته ، أولاً!
أنشر في هذا السياق الأغنية الشهيرة : ع الحلوة والمرة ، من كلمات: سيد مرسي و ألحان: محمود الشريف . كانت هذه الأغنية قد حققت شهرة واسعة بصوت المطرب الشهير في زمانه : عبد الغني السيد ، لدرجة أنها اعتبرت من أهم ماغنّى ، وكانت مغامرة من نجاة ، الصبية ذات الستة عشرة عاماً ، أن تقدمها بصوتها ، رغم أن المعاني كانت تتوافق مع حالتها ، كصبية تخلى عنها حبيبها ، أكثر من حالة مطرب شاب!
صوت نجاة ، في هذه المرحلة كان لا يزال متأثراً بتقليدها للسيدة أم كلثوم ، الذي كانت درجت عليه في سنوات غنائها الأولى ، وهو ما سنتتبعه أكثر في تسجيلات أخرى ، تعود لبداياتها أيضاً ، مع تسجيلي ، و من الآن ، وفي الأغنية المنشورة اليوم ، توفر إرهاصات التحول ، في صوتها وأدائها ، نحو الغناء الرقيق الدافئ الحنون ، الذي استقرت عليه لاحقاً ، والذي اختطه معاني هذه الأغنية ، التي تحدثت عن صبية ، يتخلى عنها حبيبها ، وهو الخط الذي سيتجسد بوضوح لاحقاً، في أشعار نزار قباني!
أتت الأغنية على قالب الطقطوقة التقليدية ، المشكلة من لحنين : لحن المذهب ، وهو لحن متكرر ، تغنيه نجاة أولاً ، ثم تكرره المجموعة في كل مرة ، متناوباً مع لحن الأغصان ، المتكرر أيضاً . اعتمد محمود الشريف إيقاعاً حيوياً للأغنية ، وذلك للتعبير عن ” الحلوة ” ، فيما بنى لحنه على مقام الصبا ، على درجة الري ، للتعبير عن ” المرّة ” ، مع ختامٍ للجملة اللحنية ، في نهاية اللحن المتكرر ، يعتمد تحويراً متداولاً ، إذ ينتقل اللحن في ثوانٍ إلى مقام النهاوند ، ثم الحجاز كار ، كما سبق وبينتُ ، أثناء استعراض عدة أغنيات على مقام الصبا! أما اللحن المتكرر للأغصان ، فقد بني على مقام النهاوند على درجة الصول ، مع توقفات تعبيرية على درجة الفا دييز ، حساس المقام ، ثم العبور إلى تلوينات على مقام العجم ، ثم النهاوند على السي بيمول ، قبل العودة إلى مقام الصبا.
النص
المذهب المتكرر
ع الحلوه والمره .. مش كنا متعاهدين * ليه تنسى بالمره .. عشره بقالها سنين
ع الحلوه والمره
الغصن الأول : بلحن ثانٍ متكرر بين الأغصان
نسيت خلاص عهدنا * ونسيت ليالينا * ونسيت كمان ودّنا * ونسيت امانينا
كان أملي فيك غير كده * ليه تنسى ماضينا * حرام عليك كل ده * شمتهّم فينا
راح تنسى كام مره وتفرح اللايمين *
ع الحلوه والمره .. مش كنا متعاهدين
ليه تنسى بالمره .. عشره بقالها سنين
ع الحلوه والمره
الغصن الثاني : باللحن المتكرر للأغصان
ايامنا كانت هنا زيناها عشرتنا * وايه اقولك انا غير بس قسمتنا
يا ناسي عهد الهوى ليه تنسى فرحتنا * انا وانت كنا سوا يا ما احلى دنيتنا
رح تنسى كام مره وتفرح اللايمين
ع الحلوه والمره .. مش كنا متعاهدين
ليه تنسى بالمره .. عشره بقالها سنين
ع الحلوه والمره
الغصن الثالث : باللحن المتكرر للأغصان
إزاي يهون حبنا .. وتروح ماتسألشي* دي العشره عندي أنا غاليه ولا تهونشي
وإن طال عليَّ الأمل شاري ولا بعشي * ومهما طال الأجل حبك ما بيضيعشي
حتبعني كام مرة وتفرح اللايمين
ع الحلوه والمره .. مش كنا متعاهدين
ليه تنسى بالمره .. عشره بقالها سنين
ع الحلوه والمره
في النشرتين التاليتين أتوقف أولاً عند وثيقة بصرية ، لأول حفلة شاركت فيها نجاة ، وغنت فيها لحناً وُضع لها خصيصاً ، لأتابع تالياً مع تحليل لحن مبكر ، وضعه لها ، أحد كبار ملحني عصره!
النشرة التالية : الطفلة نجاة تفتتح مساراً غنت فيه 275 أغنية لُحنت لها ، فتغني على مسرح معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية أولى تلك الأغاني ، وعمرها 4 سنوات!