أتوقف في أربع نشرات متتالية ، عند موشح ملا الكاسات الشهير ، من نظم الشيخ أحمد عاشور ، وألحان محمد عثمان ، وذلك في دراسة مقارنة للمساحة الصوتية في نسختين : الأولى بصوت المطرب الكبير محمد خيري ، والثانية بصوت السيدة سعاد محمد. ولنبدأ بنسخة محمد خيري.
التسجيل الذي أعرض له اليوم مقتطف من فيلم الاستعراض الكبير ، من تأليف وإخراج محمد سلمان ، عام 1975 . يتضمن التسجيل أولاً تمهيداً من القانون على مقام الراست ، ثم مشهداً سريعاً من التغني بكلمة ياليل ، يؤديه محمد خيري ، إلى أن يتم الدخول في ارتجالٍ مبني على قصيدة أسقنيها بأبي أنت وأمي ، للشاعر الأخطل الصغير ” بشارة الخوري ” ، التي نعرفها بصوت أسمهان ، وألحان الأستاذ محمد القصبجي التجديدية ، لنجدها هنا في رؤية تقليدية أصيلة ، وفق أسلوب أداء القصيدة التقليدية المرتجلة . ونظراً لضرورات عدم الإخلال بإيقاع الفيلم ، فقد أتت الارتجالات والقصيدة قصيرة المدة ، ما تسبب في أن يدخل محمد خيري مباشرة إلى منطقة الأصوات الحادة ، دون تمهيد في منطقة الأصوات العريضة والمتوسطة ، كما هي العادة ، ليتم الدخول مباشرة في موشح ملا الكاسات ، من ألحان محمد عثمان. أشير إلى أن محمد خيري اختار قصيدة أسقنيها لملاءمتها لمضمون الموشح : ملا الكاسات ، وهذا اختيار جيد!
محمد خيري
مطرب كبير من مطربي حلب البارزين . ولد عام 1935 ، ودرس على يدي محمد نصار وأحمد الفقش وبكري كردي . تميز بصوته اللامع ، واسع المساحة ، و بأدائه العفوي ، المعتمد على الارتجال . عمل في إذاعة حلب في الخمسينات ، ثم في دمشق ، مع افتتاح التلفزيون عام 1960 ، كما عمل لمدة عشر سنوات في بيروت . توفي محمد خيري عام 1981. من المؤسف حقاً أن شهرة محمد خيري لا تتناسب أبداً مع إمكاناته الفائقة في عالم الطرب.
محمد عثمان
كبير ملحني مصر في القرن التاسع عشر بلا منازع. ولد في القاهرة عام 1855 و توفي عام 1900 وهو شاب لم يتجاوز الخامسة والأربعين من العمر. ظهر عليه الميل للغناء مبكراً ، وكان شجي الصوت قوي النبرة جيد الأداء ، فضمه والده إلى فرقة الأستاذ ” المنسي الكبير ” ، والد الأستاذ قسطندي منسي. تعلم أيضاً على الشلشموني ، و الشيخ محمد عبد الرحيم الشهير بالمسلوب ، كما اشتغل بفرقة علي الرشيدي الكبير مدة طويلة ، ثم شكل فرقته الخاصة.
أصابه مرض فقد فيه حلاوة صوته ، فاهتم بالتلحين ، رغم متابعته للغناء ، و وضع عدداً كبيراً من الألحان على قالبي الموشح والدور ، في سعي لتطوير هذين القالبين التلحينيين الأساسيين في الموسيقى العربية. أضاف محمد عثمان مشهدي ” الآهات ” و ” الهنك ” إلى قالب الدور ، عبر إعطاء المذهبجية دوراً أوضح في أدائهما ، إذ بني عنصر ” الآهات ” في قالب الدور ، على توظيف الآهات لإبراز ذرى لحنية ، يتناوب المطرب والمذهبجية على أدائها ، وكذلك بني عنصر ” الهنك ” على قيام المذهبجية بترداد عبارات لحنية ، فيما ينفرد المطرب ، في الوقت ذاته ، في ارتجالات ذوقية تطريبية ، يستعرض فيها قدراته الصوتية ، وإتقانه لمسالك المقامات الموسيقية وتلاوينها .
استفاد محمد عثمان مما أضافه إلى قالب الدور ، في تطوير قالب الموشح ، حيث أضاف ” الهنك ” إلى قالب الموشح ، وهذا ما سنلاحظه في موشح ملا الكاسات ، الذي يعتبر من أهم الموشحات التي لحنها محمد عثمان ، وذلك من خلال التغني بكلمة ” مُليمي ” ، ضمن الخانة ، في تناوب مع كلمة أمان ، مع إشراك المجموعة في الترداد.
يتميز هذا الموشح باتساع مساحته اللحنية ، التي تمتد على 15 درجة صوتية ، من درجة اللا قرار إلى اللا بيمول جواب ، وقد أداها محمد خيري بصوته كاملةً ، ولم يترك الأصوات العريضة لتؤديها المجموعة ، كما يدرج كثير من المطربين.
اللحن:
دور أول: تؤديه المجموعة:
ملا الكاسات وسقاني نحيل الخصر والقد
دور ثانٍ : يؤديه المطرب:
حياة الروح في لحظه سباني لحظه الهندي
الخانة: يتم فيها الارتجال و أداء الهنك ويمر فيها على مقام الصبا على اللا حيث يصل أداء محمد خيري في الهنك هنا إلى درجة اللا بيمول ، وهي أعلى درجة صوتية في الموشح . عند أداء الخانة للمرة الأخيرة يتم العودة باللحن في خواتيمه إلى لحن ختام الدور الأول ، في تمهيد لاختتام الموشح:
مُليمي لاتسل عني ودعني على عهدي
تجدر الإشارة إلى أن الموشح يمتد أداؤه لأكثر من خمس دقائق ، فيما يتشكل النص من 19 كلمة فقط! ما يؤكد مرة أخرى أن أهمية النص تراجعت كثيراً في الموشحات ، كما في الأدوار ، لصالح اللحن والأداء والارتجال .
نلاحظ أيضاً أن التلحين في تلك الفترة لم يكن يهتم تماماً بإيقاع اللفظ ، فمثلاً : نحيلُ الخصر والقد ، ستُلحّن ناحينحيلُ الخاااصر و القاااااد، وكذلك : مُليمي لا تسل عني، لُحِّنت موليمُليمي لا تسل عنّي!
بني هذا الموشح على إيقاع السماعي الثقيل 10/8 ، أي على عشر نبضات إيقاعية. أشير هنا إلى أن الدخول في الموشح يأتي في النبضة الإيقاعية الثالثة ، فيبتدئ أولاً بنبضة إيقاعية قوية ، ثم سكون ، ثم نبضة إيقاعية ضعيفة ، وهي الثالثة ، ومنها يبدأ اللحن ، وهذا دخول صعب ، بالمقارنة مع أساليب الدخول البسيطة.
في النشرة التالية أتوقف عند نسخة السيدة سعاد محمد ، التي أدت الموشح ، ضمن مساحة صوتية لم تتجاوز عشر درجات صوتية!