على مدى نشراتٍ ثلاث ( 1 ، 2 ، 3 ) ، توقفت عند مقام الصبا ، ووجهه الحزين ، في محاولة لشرح الأسلوب ، الذي من خلاله ، يمكن توليد أجواء الألم والحزن ، لدى البناء على هذا المقام ، وذلك من خلال عوامل محددة ، أهمها بطء اللحن ، أو أن يكون مرسلاً بدون إيقاع ، مع البدء بإبراز أصوات محددة في سلم مقام الصبا الموسيقي ، تُنفذ بتتالٍ محدد ، يتم من خلالها إبراز الصوت الرابع في سلمه الموسيقي ، وهو درجة الصول بيمول ، المميز لمقام الصبا، حيث سرعان ما تشيع أجواء الحزن!
كنت مهدت لذلك في حوارية آن الأوان لسيد درويش ، ثم أبرزته من خلال عزف لي على القانون ، بني على مقام الصبا ، ثم قصيدة قالوا أحب القس سلّامة للسيدة أم كلثوم ، من ألحان رياض السنباطي.
حان الوقت الآن للانتقال التدريجي إلى أجواء اخرى ، بعيدة عن أجواء الحزن ، رغم أنها بنيت على مقام الصبا! سأنفذ ذلك الانتقال التدريجي انطلاقاً من جسرٍ لحني بين الأجواء الحزينة تماماً لمقام الصبا ، والأجواء الفرحة ، وهو لحنٌ وضعه الشيخ أحمد أبو خليل القباني الدمشقي ، رائد المسرح الغنائي العربي ، الذي عاش بين عامي 1833 و 1903 ، على نصِ حمّال لأوجه ، يمزج بين السعادة والألم هو :
يا مسعدك صبحية مع طلعة الفجرية
كتر الدلال يلبقلك وانا العذاب كله عليا
آه يا سلام يا سلام يا سلام
آه يا سلام والله الليل ما بنام
نلاحظ مباشرة أن النص يتحدث أولاً عن السعادة مع طلوع الفجر ، لينتقل إلى أن العذاب كله عليه! اختار الشيخ القباني مقام الصبا للتعبير عن عذابه ، ولكنه أعطاه إيقاعاً حيوياً ، للتعبير عن السعادة ، كما أنه ابتعد عن الابتداء بتتالي الأصوات ، الذي يبرز الصوت الرابع في سلم مقام الصبا : الصول بيمول ، وهو المميز لهذا المقام ، ليمر عليه عرضاً ، دون تأكيد ، إلا عند جملة وانا العذاب كله عليا ، لإبراز مشاعر الألم ، ما ولَّد بالنتيجة لدى المستمع شعوراً غريباً ، يدمج الوجه الحزين لمقام الصبا ، مع الوجه السعيد للإيقاع الحيوي!
التسجيل المرفق مقتطف من إحدى حلقات برنامجي التلفزيوني ” العرب والموسيقى ” ، الذي كنت أقدمه منذ ثمانينات القرن الماضي ، على شاشة التلفزيون العربي السوري ، وكنت خصصت تلك الحلقة للشيخ أحمد أبو خليل القباني ، حيث نُفذ هذا التسجيل لصالح البرنامج ، من قبل الأساتذة : المطرب وليد ترّاب ، والعازفين الأساتذة : عدنان جارور على القانون ، وأسعد الشاطر على العود ، و زياد قاضي أمين على الناي ، و نبيل خياط على الرق ، وعدنان أبو الشامات على الدف.
وقد اخترت هذا التسجيل ، لأنه يلائم شرح المعاني التي أرمي إلى إيضاحها ، إذ أنه يبدأ بدولاب معروف على مقام الصبا ، والدولاب قطعة موسيقية قصيرة وبسيطة ، تُعزف تقليدياً للتمهيد للمقام الموسيقي المطلوب ، حيث يمر أداء الدولاب من البداية على تتالي الأصوات الموصوف ، لإبراز مقام الصبا ، ولكن الأجواء تتغير مباشرة لدى الدخول في الغناء ، حيث يختلف الإيقاع ، ليصبح حيوياً ، فيما بني اللحن على مقام الصبا الحزين ، كما سبق وأشرت ، ما أسهم في توليد جو عام ، يتداخل فيه حيوية الإيقاع ، المعبرة عن السعادة ، مع مقام الصبا ، المعبر عن العذاب وآلامه!
في النشرة التالية ، نبتعد أكثر عن أجواء مقام الصبا الحزينة ، التي شهدناها في النشرتين السابقتين ، بعد هذا الجسر اللحني في نشرة اليوم ، حيث دخل الإيقاع الحيوي فعدّل من حزن مقام الصبا ، إذ نخطو خطوة أخرى ، لنشهد تحول أجواء مقام الصبا لتصبح فرحة تماماً!