أشرتُ في نشرة سابقة ، في سياق عدة نشرات أركز فيها على مقام الصبا ، الذي عُرف بملاءمته لأجواء الحزن والألم ، أن الأمر يتعلق بعوامل محددة ، يستلزم الأمر تأمينها لكي يولَِد مقام الصبا تلك الأجواء ، ومنها : بطء اللحن ، أو أن يكون مرسلاً بدون إيقاع ، مع البدء بإبراز أصوات محددة في سلم مقام الصبا الموسيقي ، تُنفذ بتتالٍ محدد ، سرعان ما تشيع أجواء الحزن ، و كنت عرضتُ للدلالة على ذلك مشهداً من ارتجال لي على آلة القانون ، كنت قدمته على المسرح الكبير في دار الأوبرا بالقاهرة عام 1993 ، جاء على مقام الصبا ، واستخدمتُ فيه تقنية عزف خاصة بي ، تبرز البعد الحزين للمقام ، مع سيطرة عاملي البطء والاسترسال ، إضافة على التركيز ومن البداية ، على إطلاق تتالٍ معينٍ للأصوات الموسيقية المشكلة لمقام الصبا ، يساعد مباشرة على إشاعة أجواء الحزن التي عُرف بها المقام.
أتوقف اليوم عند نموذج غنائي على مقام الصبا ، يغلب عليه الحزن أيضاً ، ويتم فيه البدء بالتتالي ذاته من الأصوات ، التي كنت بدأت بها عزفي المرتجل على القانون ، على أن أتابع في نشرتين تاليتين ، مع نموذجين غنائيين مختلفين تشع منهما الحيوية ، وحتى المرح ، ولكنهما يأتيان في مداخل مختلفة للحن ، بما يؤكد ، كما قلت في نشرتي السابقة ، أن المقامات الموسيقية العربية قابلة لتوليد أجواء عاطفية كثيرة، انطلاقاً من عوامل ، تتعلق بمدى حيوية الجملة اللحنية أو بطئها ، و بتسلسل الأصوات الموسيقية المشكلة للجمل اللحنية ، إضافة إلى عوامل عديدة أخرى ، تشكل غنى الموسيقى العربية وثرائها ، ولهذا أحاديث أخرى!
أعرض اليوم إذاً إلى قصيدة كتبها علي أحمد باكثير ، ولحنها رياض السنباطي ، وغنتها أم كلثوم في سياق فيلم سلامة عام 1945 هي : قالوا أحب القس سلاّمة
النص :
قالوا أحب القسُّ سلامة * وهو التقي الورع الطاهرُ
كأنما لم يدرِ طعم الهوى * والحبِّ إلا الرجلُ الفاجرُ
يا قومِ إني بشرٌ مثلكم * وفاطري ربكم الفاطرُ
لي كبدٌ تهفو كأكبادكم * ولي فؤادٌ مثلكم شاعرُ
اللحن
جاء اللحن على مقام الصبا ، على درجة الري ، وبدأ بمقدمة موسيقية بطيئة ومرسلة ، و نلاحظ مباشرة أن المقدمة تبدأ بجملة لحنية على مقام الصبا ، تعتمد تتالياً محدداً للأصوات الموسيقية ، هو التتالي ذاته ، الذي كنت بدأت فيه عزفي على القانون ، مضمون النشرة السابقة ، ولو بجملة لحنية أخرى ، كما نلاحظ أن الغناء أيضاً يبدأ بالطريقة ذاتها . طبعاً لابد من الإشارة إلى أن هذا التتالي يأتي في سياق جمل لحنية مختلفة ، ولكنها توظِّفُ التتالي ذاته من الأصوات.
عندما يصل الغناء إلى : يا قوم إني بشر مثلكم ، تتحول أجواء اللحن ، لكي تعبر عن أجواء استعطافية ، ما يتطلب الانتقال إلى مقام البيات على درجة الري ، لتكرر أم كلثوم البيت ذاته ، للتعبير عن عاطفة أخرى تالية للاستعطاف ، وهي الاستنكار ، من خلال الانتقال إلى مقام الراست ، على درجة الصول ، و في تصاعد للحن مشحون بجرعة استنكارية واضحة لموقف قوم القس منه ، إذ أن القصيدة جاءت في الفيلم ، لتعبر عن لسان حال القس ، الذي أحب سلامة ، ليعود الغناء إلى مقام الصبا ، عند : لي كبدٌ تهفو كأكبادكم ، ليختتم اللحن على مقام الصبا كما بدأ.
هذه هي أجواء مقام الصبا الحزين ، في نموذجين متقاربين ، وهناك نماذج كثيرة أخرى ، منها مثلاً أغنية ” سماح ” لمحمد قنديل ، من ألحان أحمد صدقي ، ولكن الوقت حان الآن للانتقال إلى أجواء اخرى ، في النشرات التالية ، بعيدة كل البعد ، عن هذه الأجواء الحزينة ، يسيطر عليها الفرح ، وحتى المرح ، وعلى مقام الصبا!
تجدر الإشارة إلى أن السيدة أم كلثوم أخطأت في تحريك حرف الباء في كلمة الحب ، إذ أدتها بالضم : الحبُّ ، والصحيح أن تأتي بالكسر : والحبِّ، حيث تكون معطوفة على الهوى ، أو بالفتح ، : والحبَّ ، وتكون عندها معطوفة على طعمَ.