توقفت في نشرات سابقة ، عند أساليب التعبير عند الموسيقيين ، سواء من خلال التقنيات والسرعة ، أو التعبير عن المشاعر ، وذلك في سياق تيار موسيقي عام ، برز في عشرينات القرن الماضي ، و اعتمد التعبير في التلحين والغناء عن المعاني ، كان رسَّخه سيد درويش ، وخاصة في أعماله المسرحية. أتوقف اليوم ، بالمقابل ، عند تيار موسيقي آخر ، رسَّخه محمد القصبجي ، وهو التيار الموسيقي في الغناء ، الذي سعى لتقليص دور الكلمة ، أصلاً ، لتكتفي بدور الحامل للصوت والموسيقى ، فيما سُمي المدرسة الرومنسية ، التي جسدها قالب غنائي محدد : المونولوج الرومنسي.
المونولوج الرومنسي في أوربا
وُلِد المونولوج الرومنسي في أوربا، للتعبير غنائياً عن عناصر المدرسة الرومنسية في الفن، التي تميزت بعنف المزاج، وتقلبه، والحس المرهف، والإحساس بالظلم وقسوة القدر، والإعجاب بالذات، وتأليهها، وتقديس الجمال، ومناجاة الطبيعة، والتغني بجمالها. وكثيراً ما ارتبط المونولوج بالأوبرا وبالمسرح الغنائي ، عندما ينطلق بطل الأوبرا أو المسرحية الغنائية، في غناء وجداني سردي، يعبر عن مشاعره وأحلامه أو آماله.
المونولوج الرومنسي في عالمنا العربي
برز المونولوج الرومنسي كقالب غنائي في عالمنا العربي في منتصف العشرينات ، عبر تعاون ثنائي عظيم، تشكل من محمد القصبجي الملحن المجدد، وأحمد رامي الشاعر العائد من فرنسا، والمتأثر بالمدرسة الرومنسية في الشعر الفرنسي. بدأ هذا الثنائي، في منتصف العشرينات ، ، سعيه لإرساء معالم المدرسة الرومنسية في الغناء العربي ، مواكباً في ذلك موجة رومنسية في الأدب، نشأت عندما ترجم أحمد الزيات رواية روفائيل للفرنسي لا مارتين، وآلام فرتر، للألماني جوته، وترجم أحمد زكي غادة الكاميليا، للفرنسي ألكسندر دوما الإبن ، فوجد له في صوت أم كلثوم الساحر، مجالاً رحباً لاختبار العناصر الجمالية الرومنسية كلها، مركزاً في البداية على نصوصٍ باللغة العامية المصرية ، متأثراً في ذلك بتركيز الرومنسية على العناصر المحلية والشعبية ، و لما توفره العامية من إمكانات ، لتنويع الإيقاعات و القوافي ، ولإغناء النص بالأحرف الصوتية التي تسمح بمد الصوت لإبراز جماله ، منفتحاً لاحقاً على نصوص شعرية ملائمة باللغة العربية الفصحى.
العناصر الموسيقية في المونولوج الرومنسي
عبر القصبجي في مونولوجاته عن تقلب المزاج بالتغير الإيقاعي الدائم ، وعاونه رامي في صياغة متغيرة الأوزان والقوافي ، وتم الإعتماد على صوت أم كلثوم الرائع أولاً، ثم أسمهان لاحقاً، لإعطاء المدود الصوتية التي تحقق تعميق تقديس بالجمال. اعتمد القصبجي أيضاُ ، على البدء بمقدمات موسيقية معبرة، و إعطاء دور هام للفرقة الموسيقية في أداء اللوازم الموسيقية ، والتقاطع مع الغناء، لإغناء فكرة تضاد العواطف، مما ساهم بشكل أساسي في تطوير الفرقة الموسيقية العربية.
بدأ المونولوج عند القصبجي في شكل يعتمد على تكرار لحن معين بين مشاهد المونولوج، فيما سمي المونولوج المقيد، وتطور وصولاً إلى شكل آخر لاتكرار فيه لأي لحن، فيما سمي المونولوج المطلق ، كما ورد في مونولوج «يامجد » لأم كلثوم عام 1937 ، و « رق الحبيب » عام 1944 ، ومونولوج « ياطيور » عام 1940 لأسمهان.
اخترت اليوم مونولوجاً من ألحان رياض السنباطي ، هو مونولوج ” قضيت حياتي ” من كلمات أحمد رامي ، وكان ورد في سياق فيلم نشيد الأمل ، لكي نتتبع من خلاله ، عناصر المدرسة الرومنسية كما وصفتها أعلاه ، ولكن وفق رؤية رياض السنباطي ، خاصة أنه اقترب في هذا المونولوج كثيراً من مدرسة محمد القصبجي ، مع سعي واضح للتمايز.
طبعاً .. أؤكد أن هذا ليس اقتباساً ، وإنما هو التزام بعناصر قالب تلحيني جديد واعتماد له..
النص
نلاحظ في النص ، رغم قصره ، تكرار مفردات معينة ، مثل : الفؤاد : 3 مرات ، الوداد : 2 ، الحب وتفعيلاته : 3 ، البعاد والبعد : 3 ، بما يدل بوضوح على أن النص لم يعد الأساس ، بل أصبحت وظيفته ، إضافة إلى توظيف تعابير رومنسية ، حمل الصوت ، وتوفير كثافة عالية من الأحرف الصوتية ، وتغييرات في الإيقاع والقوافي ، يستلزمها التعبير عن تغيرات المزاج!
قضيت حياتى حيرى عليه * وكان فؤادى مشتاق إليه
صرنا حبايب من يوم لقانا * والطبع غالب وفَّق هوانا
ألِف قلوبنا على الوداد * والحب أصله من الفؤاد
******
شفتك عشقتك يا نور عيونى * وعرفت حيى من طول سكوني
وغبت عني وقلبي وافي * وبعدت عني وليه تجافي؟
احتار في عيني طيف السهاد * وزاد أسايا نار البعاد
*********
لما شكتلك وحنِّ قلبك * والعشرة طالت وبان لي حبك
حفظت عهدك وصنت عهدي * وليه يا هاجر تفوتنى وحدي؟
ياللى ظلمت الوداد * ورضيت بطول البعاد * إرحم أنين الفؤاد
البعد أضناني * والهجر بكاني * والروح معاك * و الشوق إليك
اللحن
جاءت المقدمة الموسيقية على مقام النهاوند ، مصوراً على درجة اليكاه ( الصول ) ، وهو مقام خال من أرباع الأصوت ، بما يجعله ملائماً ، لما اعتمده السنباطي فيها من توزيع هارموني ، قام بوضعه عزيز صادق . تبين ذلك الصورة الموجهة على الفرقة الموسيقية حيث يظهر فيها عازف الكمان الأول إلى اليسار ، يعزف اللحن الأساسي ، فيما العازف الذي جلس أمامه ، يعزف اللحن المرافق ، المخصص لمجموعة الكمان الثاني ، ويبدو جلياً ، من توجيه الكاميرا ، وإبراز اختلاف حركة الأقواس بينهما ، السعي لإبراز هذه النقطة من قبل المخرج .
حفلت المقدمة بجرعات تعبيرية متناوبة ، حيث نلاحظ وجود امتدادات صوتية من آلات الكمان ، تعقبها حركات متناوبة سريعة ، وفي هذا تعبير واضح ، عن أحد عناصر المدرسة الرومنسية في التلحين ، كما أسلفتُ ، وهي تغير المزاج ، الذي يعبر عنه ، إما بتغيرات إيقاعية ، أو بتغيرات في توتر اللحن الداخلي ، ولكن حيوية مشاهد الفرقة الموسيقية ، أينما وردت ، تدل على قصد سنباطي ، في إدماج هذه الحيوية ، في عناصر التعبير عن الرومنسية في اللحن.
تبدأ أم كلثوم الغناء في امتدادات صوتية ، تعبر أيضاً ، عن عنصر تقديس الجمال في المدرسة الرومنسية ، على مقام البيات ، فيما تحافظ الفرقة مبدئياً على أسلوبها ، منفذة تقاطعات واضحة و حيوية مع الغناء ، وهذا أيضاً من عناصر المدرسة الرومنسية . نلاحظ أن الامتدادات الصوتية تحصل ، كلما كان هناك أحرف صوتية ، وضعها أحمد رامي في خلايا النص بدقة ، لتأمين ذلك . تنتقل أم كلثوم إلى مقام البيات بوضوح عند : مشتاق إليه ، لتتحول الفرقة في أدائها إلى مقام البيات ، الذي يحتوي أرباع الأصوات ، ما يتسبب في غياب التوزيع الهارموني ، الذي يعود ، وكذلك مقام النهاوند ، بعدما تنتهي من : وفّق هوانا.
تعود الصورة لتدخل مجال التعبير ، بعد مقدمة موسيقية حيوية ، إذ تصبح خلفية أم كلثوم مشكلة من سماءٍ وغيوم ، وكأنما تتوجه أم كلثوم هنا إلى الله عز وجلّ بالدعاء : ألَّف قلوبنا ، مع انتقالٍ إلى مقام البيات الشوري العاطفي عند : والحب أصله من الفؤاد ، و تنفيذٍ لامتدادات تعبيرية عند: الفؤاد ، يتلوها مداخلة موسيقية حيوية من الفرقة على مقام البيات ، ليستمر الغناء على مقام البيات عند : شفتك عشقتك ، ويتحول إلى البيات الشوري عند : وغبت عني ، مع امتدادات صوتية عند : وليه تجافي؟
تدخل أم كلثوم عند : احتار في عيني ، في غناء مرسل على البيات الشوري العاطفي ، تمهيداً للدخول في مقدمة موسيقية حيوية مجدداً عند : لما شكتلك ، على مقام نهاوند ، مع تغييرات إيقاعية ، في جمل لحنية قصيرة ، لتنتقل إلى مقام الراست عند : حفظت عهدك ، مع تصاعد استنكاري عند : وليه ياهاجر تفوتني وحدي؟
تعود الفرقة الموسيقية إلى الإيقاع عند : ياللي ظلمت الوداد ، مع دخول في مقام السيكاه البلدي على درجة الصول ، لتعود إلى النهاوند في المرة الثانية عند : البعد أضناني ، في تمهيد للختام المعلق ، الذي يعد من عناصر المونولوج أيضاَ.
نلاحظ ألا وجود لأي تكرار في الألحان إذ يبدأ اللحن ويستمر وينتهي دون أي تكرار ، فيما يسمى ، كما أسلفتُ ، المونولوج المطلق.
يعتبر هذا المونولوج ، من أهم الشواهد وأوضحها ، على مكونات المدرسة الرومنسية في الغناء العربي ، التي قاومت الزمن ، حتى منتصف الأربعينات ، قبل أن تغيب بفعل عوامل كثيرة، لها حديث آخر!
من المهم أن أؤكد أخيراً ، على أن إرهاصات المونولوج الرومنسي ، كانت بدأت بالظهور ، في مسرحيات سيد درويش!
تحفة فنية نادرة هذا المونولوج
تحليل موفق مع ملاحظة بالنسبة لمقام الشد عربان الذي أشرت إليه في آخر المونولوج هو في الحقيقة مقام السيكاه البلدي و ليس الحجازكار على الصول (شد عربان)
صحيح .. هو مقام السيكاه البلدي وشكراً على المتابعة الدقيقة!