أتوقف اليوم عند رؤية لحنية رابعة لقصيدة أبي نواس الشهيرة : حامل الهوى تعبُ ، حمّالة الأوجه المتعددة في نصها ، ما تسبب في أن تتعدد رؤى الملحنين في تناولهم لها.
كنّا قد لاحظنا في النشرات الثلاث السابقة ، أن النص حمل مفرداتمتناقضة ، أو منسجمة ، أو مختلفة المعاني ، وردت فيه على التوالي ، وحمَّلته أوجهاً متعددة:
الهوى ، التعب ، الاستخفاف ، الطرب ، البكاء ، اللعب ، السقم ، الصحة ، الضحك ، الانتحاب!
وأن الأخوين رحباني ، وضعا لحنهما الحيوي ، الذي كان موضوع النشرة الأولى في هذا السياق ، بناءاً على : الاستخفاف ، اللعب ، الضحك ، الصحة ، وهي معانٍ منسجمة فيما بينها ، وأنهما تجاوزا : التعب ، البكاء ، الانتحاب ، السقم ، وهي معانٍ منسجمة فيما بينها أيضاً ، و لكنها تشكل رؤية مختلفة ، كانت هي التي اعتمدها الشيخ يوسف المنيلاوي ، في نسخته للأغنية ، لتأتي نسخة زكية حمدان من ألحان توفيق الباشا لتعتمد الحيرة ، أمام الموقف الذي وصَّفته القصيدة ، ولتميز بين العام والخاص في النص ، إذ أن البيتين الأول والثاني تحدثا عن توصيف عام لوضع المحب ، فيما أتت الأبيات الثلالة التالية لتنقل خطاباً موجهاً من المحب إلى المحبوبة ، وذلك كما بينتُ في نشرتي السابقة.
فماذا عن نسخة هذه القصيدة التي جاءت بصوت سيد مكاوي ولحنه ؟
النص واللحن
تجدر الإشارة أولاً إلى أن كل ملحن ، عندما يختار الكلمة المفتاح التي سيبني عليها رؤيته التلحينية ، إذا كان النص حمّالاً لأوجه متعددة ، فإنه في ذلك يتأثر بمخزونه اللحني ، وبثقافته الموسيقية التي نشأ فيها. من هنا فإنني أرى أن سيد مكاوي ، في اعتماده على مخزونه اللحني الأساسي ، اتجه لاعتماد الطرب ، كمدخل لرؤيته اللحنية للقصيدة ، خاصة أن الطرب كان أحد مداخل النص ، ما سيجعل التحليل الموسيقي اليوم ، يدخل أكثر في خلايا المقامات والإيقاعات ، وهي العناصر الأساسية ، عندما يكون الطرب سيد الموقف.
برز هذا أولاً في اختياره لقالب الموشح ، لبيني عليه اللحن ، دون تقيد كامل به ، كما سنرى لاحقاً ، وهذا أسلوب تقليدي ، يتوافق مع المدرسة اللحنية التي نشأ فيها سيد مكاوي ، إذ سبق أن أشرت في حديثي عن نسخة القصيدة ، بصوت الشيخ يوسف المنيلاوي ، أن الشكل التقليدي القديم لغناء القصيدة ، كان في أسلوبين : ارتجالٌ من قبل المطرب ، يبرزفيه قدراته الصوتية ، وتبحره في عالم المقامات ، في أداء مرسل دون إيقاع ، تحول لاحقاً ليداخله الإيقاع البسيط ، وتثبيت اللحن ، أو تلحين القصيدة على قالب الموشحات.
لم يغير سيد مكاوي في ترتيب أبيات النص ، مثلما فعل توفيق الباشا ، بل حافظ على تسلسل الأبيات الأصلي ، مع تصنيفها وفق قالب الموشحات التلحيني كما يلي:
الدور :
حامل الهوى تعبُ يستخفه الطربُ
إن بكى يحق له ليس ما به لعبُ
الخانة
كلما إنقضى سبب منك عاد لي سبب
تعجبين من سقمي صحتي هي العجب
الغطاء
تضحكين لاهية و المحب ينتحبُ
اختار سيد مكاوي مقام الماهور ( تبسيطاً : هو مقام الراست الأصيل ، مع بداية اللحن من منطقة الأصوات الحادة ) ، ليبني عليه لحنه للقصيدة ، في تثبيت لخياره الأساسي ، في اعتماد الطرب كأساس لرؤيته التلحينية ، وقام ، في هذا السياق ، بعملية إيقاعية غير معهودة ، إذ بدأ اولاً بمقدمة موسيقية قصيرة ، على إيقاع السماعي الثقيل 10/8 ، ليبدأ الغناء بجملة لحنية تطريبية تقليدية ، عند : حامل الهوى تعبُ ، تتشابه مع الكثير من الجمل اللحنية التقليدية ، في الموشحات والسماعيات ، ولكن على إيقاع مختلف عن إيقاع المقدمة الموسيقية ، هو إيقاع الظرافات 13/8 ، الذي يتشابه في مساره مع إيقاع السماعي الثقيل ، الذي جاءت عليه المقدمة الموسيقية ، مع زيادة ثلاث نقرات إيقاعية في البداية ، واختلاف في النقرة الأخيرة ، متبعاً هذه الجملة اللحنية الأولى بآهات تعبر عن التعب ، وتمهد للتعبير عن الطرب ، ومستمراً على الإيقاع ذاته ، ليكمل البيت الأول عند : يستخفه الطرب ، في جملة تطريبية تقليدية أخرى.
عندما يدخل في البيت الثاني ، عند : إن بكى يحق له ليس ما به لعبُ ، يعود مباشرة إلى إيقاع السماعي الثقيل 10/8 ، و يتخلى عن جرعة التطريب الواضحة ، ليركز في أسلوب أدائه الغنائي على التعبير عن البكاء!
عندما يتحول النص إلى الموقف الخاص ، إذ يخاطب الشاعر المحبوبة مباشرة : كلما إنقضى سببٌ منك عاد لي سبب ، ينتقل سيد مكاوي إلى لحن جديد ، على مقام الكرد العاطفي ، جمله اللحنية قريبة من المتداول أيضاً ، مثبِّتاً إيقاع السماعي الثقيل ، و مشكلاً بذلك الانتقال ، الخانة في قالب الموشح ، ثم يكرر اللحن ذاته عند : تعجبين من سقمي صحتي هي العجب ، مع إبطاءٍ تعبيري في الأداء عن السقم والصحة ، قبل أن يعود إلى مقام الماهور ، في اختتامٍ للحن القصيدة ، مع البيت الأخير ، عند : تضحكين لاهية و المحب ينتحبُ ، مقارباً بذلك ، ما يسمى الغطاء ، في قالب الموشح ، دون أن يتوافق مع قاعدته تماماً ، ويلاحظ هنا أنه عاد إلى إيقاع الظرافات ، عند تضحكين لاهيةً ، ليكمل : والمحب ينتحب ، على إيقاع السماعي الثقيل هذه المرة ، دون أن يكمله تماماً ، كما يلاحظ أن اللحن هنا عاد تطريبياً ، ولم يعبر عن أي استنكار لضحك و لهو المحبوبة ، أمام انتحاب المحب!
وهكذا ، اعتمد سيد مكاوي قالب الموشح ، دون أن يتقيد به تماماً ، إذ لم يكرر لحن الدور الأول في دورٍ ثانٍ ، كما يُفترض ، ولعل هذا كان بسبب محدودية عدد الأبيات ، كما لم يعد إلى لحن الدور الأول في ختام الموشح ، كما يُفترض أيضاً ، فيما يسمى الغطاء ، ولكنه اكتفى بالعودة إلى المقام الأساسي ، وإلى إيقاع لحن الدور الأول ، ولو جزئياً ، وفضَّل أن يختتم الموشح بلحن ختامي تطريبي ، يستقر على درجة استقرار المقام ، وهي درجة الراست ( الدو ) ، بينما كان لحن الدور الأول استمرارياً ، دون استقرار ، للدخول في لحن الخانة.
بالنتيجة ، قدم سيد مكاوي هنا شخصيته التلحينية التقليدية التي نشأ فيها ، مع تطويرٍ واضح لها ، إذ اعتمد رؤيةً استندت إلى الطرب ، و لكنه امتلك الحرية الكاملة في التعامل مع أساسياتها ، إذ أصبحت الإيقاعات المركبة ، مثلاً ، وكما رأينا ، قابلةً للتوظيف على مستوى جملة لحنية واحدة ، مرتبطة بشطرة من بيت شعري ، دون أن يتكرر دور الإيقاع فيها ، لتأتي جملة لحنية ثانية ، مرتبطة بالشطرة الثانية من البيت ، على إيقاع مركب مختلف! وذلك في أسلوب مشابه لتوظيف الشعراء للتفعيلات ، وليس للبحور الكاملة ، في شعر التفعيلة ، كما وظَّف في رؤيته هذه ، أدوات تعبيرية مقامية وإيقاعية وأدائية أيضاً ، للتعبير عن المعاني ، حيث أمكن!
الفيديو المرفق من تسجيلات التلفزيون العربي السوري في منتصف السبعينات.
يمكن متابعة تحليل نسخة القصيدة بصوت فيروز ووديع الصافي
يمكن متابعة تحليل نسخة القصيدة بصوت يوسف المنيلاوي