أتابع اليوم ، مجدداً ، و كما سبق و وعدتُ ، مع قصيدة أبي نواس الشهيرة : حامل الهوى تعبُ ، التي تداولها الملحنون في رؤى مختلفة ، إذ أن النص أتى حمّالاً لأوجه متعددة ، أوردها فيما يلي بين قوسين ، بحيث سمح كل وجه منها برؤية مختلفة للجو العام الملائم لتلحينها :
حامل (الهوى ) ( تعبُ ) ( يستخفه ) ( الطربُ )
إن ( بكى ) يحق له ليس ما به ( لعبُ )
كلما إنقضى سبب منك عاد لي سبب
تعجبين من ( سقمي ) صحتي هي العجب
( تضحكين لاهية ) و المحب ( ينتحبُ )
وكنّا قد لاحظنا في النشرتين السابقتين ، أن النص حمل مفردات متناقضة ، أو منسجمة ، أو مختلفة المعاني ، وردت فيه على التوالي ، وحمَّلته أوجهاً متعددة:
الهوى ، التعب ، الاستخفاف ، الطرب ، البكاء ، اللعب ، السقم ، الضحك ، الانتحاب!
وأن الأخوين رحباني ، وضعا لحنهما الحيوي ، الذي كان موضوع النشرة قبل السابقة ، بناءاً على : الاستخفاف ، اللعب ، الضحك ، وهي معانٍ منسجمة فيما بينها ، وأنهما تجاوزا : التعب ، البكاء ، الانتحاب ، السقم ، وهي معانٍ منسجمة فيما بينها أيضاً ، و لكنها تشكل رؤية مختلفة ، كانت هي التي اعتمدها الشيخ يوسف المنيلاوي ، في نسخته للأغنية ، التي كانت موضوع النشرة السابقة.
فماذا عن نسخة هذه القصيدة التي جاءت بصوت زكية حمدان ، و ألحان الأخ العزيز و الموسيقار الراحل توفيق الباشا؟
زكية حمدان
ولدت زكية حمدان في #حلب عام 1925 برزت موهبتها منذ طفولتها ، أذ كان لصوتها الرخيم رنين خاص ، يميزه عن غيره من المطربات بسهولة . تعلمت على كبار الأساتذة في حلب ، غناء القصائد والموشحات والأدوار ، وعزف العود ، فيما علّمها والدها الفنان المسرحي حسن حمدان التعبير عن الكلمة المغناة . غنت زكية حمدان أيضاً من أعمال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ، التي شاعت في تلك الفترة ، وبالمقابل درست على يد الملحن وعازف البيانو أنطوان زابيطا ، الذي وجهها باتجاه المونولوجات الرومنسية ، ولحن لها بعضها ، ورافقها بالعزف على البيانو . في بداية الخمسينات اشتهرت لها قصيدتان ، من ألحان الملحن وعازف الكمان اللبناني خالد أبو النصر ، وهما : سليمى من كلمات نوفل الياس ، و خلقت جميلة من نظم مدحة عكاش . انتقلت إقامة زكية حمدان إلى بيروت لاحقاً ، وتوفيت عام 1987 في الكويت.
الموسيقار توفيق الباشا
مؤلف موسيقي وملحن لبناني ، ولد عام 1924 و درس العزف على آلة التشيللو ، في معهد الموسيقى التابع للجامعة الأمريكية في بيروت ، ثم تابع دراسة التأليف الموسيقي ، على يد الأستاذ برتران روبيّار .
شكل مع الأخوين عاصي ومنصور رحباني و زكي ناصيف و توفيق سكر ما سمي عصبة الخمسة ، التي هدفت إلى إعادة تقديم الفولكلور برؤى موسيقية جديدة. وضع عدة مؤلفات موسيقية مبنية على قالب السمفوني ، منها سمفونيات : الليل ، فوق البنفسجية ، بيروت ، السلام ، كما وضع عدة إنشاديات للكورال ، ومنها : الإنشادية النبوية.
انتبه إلى انحسار أداء الأدوار والموشحات ، منذ أربعينات القرن الماضي ، فركز على إعادة توزيعها أوركسترالياً ، وتسجيلها لصالح الإذاعة اللبنانية ، وشركات الأسطوانات ، ومن ذلك ، إعداده لفاصل أسق العطاش ، الذي سجله مع الأستاذ صباح فخري ، ودور أنا هويته وانتهيت ، الذي سجله بصوت سعاد محمد ، بمصاحبة الأوركسترا ، وهو الذي كان دربها في بداياتها ، على أداء الأدوار والموشحات.
قصيدة حامل الهوى تعبُ بصوت زكية حمدان و ألحان توفيق الباشا
لاحظ توفيق الباشا أن النص يجسد رؤيتين رئيسيتين متناقضتين : الاستخفاف ، و السقم ، كما أسلفنا ، وأنا أرى أنه اعتمد رؤية ثالثة ، وهي وجهة نظر المراقب ، الذي يتعاطف مع المحب ، طبعاً ، ولكنه يحتار أمام الوضع الموصوف في القصيدة ، بين محب ينتحب ، و محبوبة لاهية ضاحكة ، ولذا فقد فجاء لحنه بطيئاً ، في تعاطفه مع المحب ، و مبنياً على مقام اللامي ، وهو مقام يعبر عن الحزن و الحيرة ، لأنه يتميز عن غيره من المقامات الموسيقية ، ذات درجة الاستقرار الواضحة ، كأن نقول أن مقام البيات يستقر على درجة الدوكاه ( الري ) ، ومقام الراست يستقر على درجة الراست ( الدو ) ، في أنه يتلون في جمله اللحنية ، بين درجتي استقرار ، إحداهما أساسية : البوسليك ( المي ) ، والثانية فرعية : الحسيني ( اللا ) ، كما أن إبراز المقام ، يتطلب التوقف عند الإثنتين ، في شكل متناوب ، حتى الاستقرار الأخير على الدرجة الأساسية ، في تعبير واضح عن الحيرة.
ومما يؤكد ما أقول ، في أنه اعتمد موقف المراقب ، إعادته للبيتين الأولين في ختام الأغنية ، لكي يؤكد على رؤيته ، التي تنظر للموضوع ، من وجهة نظر خارجية حيادية ، و أنه ، عندما يختتم الغناء ، ينهي اللحن على درجة الاستقرار الأساسية للمقام ، ولكنه ، وبشكل مفاجئ ، يتابع مع الفرقة الموسيقية في جملة لحنية قصيرة ، تختتم العمل بكامله ، وتستقر على درجة الاستقرار الفرعية!
ألاحظ أيضاً أن توفيق الباشا عكسَ ترتيب الأبيات الثلاثة في القصيدة ، التي يوجه فيها الشاعر الكلام للمحبوبة ، بحيث أعطت المعاني جرعة درامية أوضح ، وتسلسلاً منطقياً أسلس ، إذ يبدأ النص بتوصيف الحالة ، من وجهة نظر مراقب : حامل الهوى تعب يتسخفه الطرب ، إن بكى يحق له ليس ما به لعبُ ، وهي حالة كل محب ، ليتابع مع بيت : تضحكين لاهية والمحب ينتحب ُ ، حيت يأتي التسلسل منسجماً بشكل أفضل ، إذ أن هذا البيت يتحدث أيضاً عن البكاء ، ولكنه يحقق أيضاً الانتقال من توصيف حالة عامة ، إلى موقف خاص بمحب ومحبوبة ، ويؤكد الباشا على هذا الانتقال ، من خلال تغيير المقام ، إذ يأتي اللحن هنا على مقام البيات ، لينتقل الغناء إلى البيت التالي : تعجبين من سقمي صحتي هي العجبُ ، الذي يوصِّف السقم ، مع الاستمرار مع مقام البيات ، فتبيان أسباب السقم ، في البيت الذي يلي : كلما انقضى سبب منك عاد لي سببُ ، إذ أن تكرار أفعال المحبوبة تجلبه ، مع عودة فيه إلى مقام اللامي ، حيث يشكل هذا البيت إذاً ، الجسر للعودة إلى الموقف التوصيفي العام ، الذي يعود للظهور ، مع تكرار البيتين الأولين ، في ختام الأغنية.
وهكذا جاء ترتيب الأبيات كما يلي:
حامل الهوى تعب يستخفه الطربُ
إن بكى يحق له ليس ما به لعبُ
***
تضحكين لاهية و المحب ينتحب
تعجبين من سقمي صحتي هي العجب
كلما إنقضى سبب منك عاد لي سبب
***
حامل الهوى تعب يستخفه الطربُ
إن بكى يحق له ليس ما به لعبُ
لابد أيضاً من التوقف عند أداء زكية حمدان لكلمة : يحق ، في البيت القائل : إن بكى يحق له ليس ما به لعبُ ، مرتين ، سواء في بداية الأغنية أو في ختامها ، عندما تؤديها كما يلي : يحِ قُ له ، أي بتوقف بين جزأي الكلمة ، في تعبير عن الغصة التي تعتري الباكي . طبعاً لو كانت أدتها مرة واحدة بهذا الشكل ، لقلتُ بأنها صدفة ، ولكن تكرارها بالأسلوب ذاته ، في بداية الأغنية ، و في ختامها ، يؤكد ما ذهبتُ إليه!
ومما يؤكد قراءتي ، أخيراً ، في أن الجو العام للّحن ، بُني على الحيرة ، المتعاطفة مع المحب المتألم ، أمام الوضع العام الذي وصّفته القصيدة ، أن أداء زكية حمدان ، بصوتها الرائع ، جاء محايداً ، لأنها كانت راويةً للحدث ، و لم تكن طرفاً فيه!
يمكن متابعة تحليل نسخة القصيدة بصوت فيروز ووديع الصافي
يمكن متابعة تحليل نسخة القصيدة بصوت يوسف المنيلاوي