أنشر اليوم قصيدة ” أماناً أيها القمر المطِلُّ ، التي سجلتها السيدة أم كلثوم ، في عام 1928 ، بُعيد وفاة ملحنها الشيخ أبي العلا محمد ، وهي من كلمات ابن النبيه المصري ، و قد جاءت على مقام الحجاز كار. اخترت نشر هذه القصيدة لسببين : أولاً لأن وسائل الإعلام المعاصرة ، لا تركز إلا على ما سجلته أم كلثوم سينمائياً و تلفزيونياً ، ما استبعد من أذهان الناس ، رصيدها الثري ، الذي كان قبل ولادة السينما و التلفزيون ، أو كان ولد محروماً من الصورة ، وثانياً : لأنها تثبت بشكل واضح ، أن مساحة صوتها ، كانت في العشرينات من القرن الماضي ، تغطي 15 درجة صوتية سليمة ، بما يوازي ديوانين موسيقيين كاملين!
الشيخ أبو العلا محمد وأم كلثوم
وُلد أبو العلا في عام 1878 ، درس أصول الموسيقى العربية، وحفظ الأوزان والمقامات، واطّلع على القوالب التلحينية السائدة. عمل في بطانة عبده الحمولي، فتأثر به وبأسلوبه الجديد في تلحين القصيدة، بعد أن كانت لاتغنى إلا مرسلة ، كما سمعناها من الشيخ سلامة حجازي أو من مطربي حلب ، فكرّس حياته التلحينية إليها ، في وقت كان العالم العربي يشهد فيه إعادة الاعتبار للغة العربية ، في إطار بروز المشاعر القومية ، و تفكيك العلاقة مع الإمبراطورية العثمانية ، بعد خسارتها في الحرب العالمية الأولى .
اهتم أبو العلا بالتوافق بين اللحن والكلمة في القصيدة، متوازياً في ذلك مع سيد درويش الذي اهتم بالتوافق ذاته، ولكن في إطار الأغنية العامية. كان يبدأ باختيار قصيدة من أعذب ما جاء في الشعر العربي ، مما يصلح للغناء ، ويحفل بالأحرف الصوتية ، ثم يلجأ إلى اختيار المقام الملائم ، و البدء بالغناء مباشرة ، فيما يشبه الارتجال المرسل ، ولكن مع ضبطه على الإيقاع المختار ، معتمداً على خبرته ، في مواءمة التقطيع العروضي مع الإيقاع الموسيقي ، ومطابقة نبرات اللفظ مع نبرات اللحن ، و في التعبير عن المعاني عبر تلوين الأداء والمقامات الموسيقية ، و قد كان قادراً ، من خلال اعتماد هذه الطريقة ، على أن يلحن القصيدة الواحدة بأشكال مختلفة ، كما كان قادراً على تلحين قصائد مختلفة على مقامات متماثلة ، وبنكهة خاصة لكل قصيدة ، حسب المزاج المسيطر لحظة أدائها.
تمكن أبو العلا من تحقيق الانتشار الواسع عبر هذا الأسلوب ، مقاوماً بذلك الموجة السائدة ، وسجل بعض قصائده على أسطوانات ، ومنها : أفديه إن حفظ الهوى ، غيري على السوان قادر ، وحقك أنت المنى والطلب .. ولكنه كان بحاجة إلى صوت ساحر لينشر ألحانه وتوجهاته في عالم القصيدة.
جاءت الفرصة عندما جمعته صدفة مع أم كلثوم في محطة السنبلاوين للقطار عام 1919 ، وسرعان مااكتشف عندها الصوت الساحر المنشود ، فأقنعها وأهلها بضرورة النزوح إلى القاهرة ، ولولا التقاؤه بها ، وإظهارها التعلق به ، واهتمامه بأن تنتقل للقاهرة ، لعلها كانت بقيت مغنية ريفية مغمورة. في القاهرة ، أصبح أبو العلا محمد أستاذ أم كلثوم ، وقائد خطواتها الأولى. علّمها مقامات وإيقاعات الموسيقى العربية، وطرق الأداء والنطق الصحيح ، والتحكم في طبقات الصوت وإطلاقه على جميع مستوياته ، كما أعطاها أجمل قصائده لتغنيها.
ساهم الشيخ أبو العلا على صعيد آخر ، في تعريف السيدة أم كلثوم ، بجاره وصديقه الشاعر أحمد رامي. كان قد اختار قصيدة له هي “الصب تفضحه عيونه ” فلحّنها وغناها، ثم أعطاها لأم كلثوم لتغنيها، ثم عرَّفها على رامي، الذي أصبح أستاذها وشاعرها المفضل.
المساحة الصوتية
كانت ألحان أبي العلا تتضمن تدريبات صوتية صعبة ، و تتطلب مساحة صوتية واسعة ، ومن ذلك ما ورد في هذه القصيدة : ” أماناً أيها القمر المطلّ ” ، التي غنّتها السيدة أم كلثوم عام 1928 ، إذ ورد فيها تسلسل صوتي من 15 صوتاً ، بما يساوي ديوانين موسيقيين كاملين ، مع تعرجات صوتية صعبة الأداء ، وذلك في المشهد من القصيدة عند الدقيقة 5:27 من التسجيل ، عند : أيا ملك القلوب فتكتَ فيها وفتكُكَ في الرعية لا يحِلُّ
اللحن والأداء
تبين هذه الأغنية بوضوح أسلوب الشيخ أبي العلا في التلحين الارتجالي و المخطط ، إذ اختار لها مقاماً موسيقياً ، هو الحجاز كار ، ولكنه لا يوظفه عملياً إلا في بداية الأغنية و ختامها ، معتمداً على أن هذا المقام ، يُبتدأُ فيه عادة من الجواب ، أي منطقة الأصوات الحادة ، وأن مساره اللحني يتطلب البدء بمقام النهاوند ، في تلك المنطقة ، فيفعل ذلك من البداية ، ثم يبدأ بالتلوين المقامي في المنطقة الحادة ذاتها ، التي تغلِّف مجمل الأغنية ، فيعرِّج على مقام الحجاز ، والبيات ، والراست ، حسب المعنى ، فالحجاز العاطفي يأتي عندما ترد لفظة السقام ، والراست التطريبي يأتي عند : يزيد جمال وجهك ، والبيات الشجي يأتي عند : أيا ملك القلوب، ليتبعه مقام الراست أيضاً ، في موقع صوتي مختلف ، ناهيك عن تخافض لحني عند : يضمحلُّ ، فيتوقف في نهاية الجملة اللحنية ، على درجة العجم ، و يخفت الصوت حتى يكاد يختفي!
اعتمد أبو العلا ، في هذه الأغنية أيضاً ، على ارتباط الجملة اللحنية بالشطرة من البيت الواحد ، دون أن تمتد على طول البيت الشعري الكامل ، وفق ما جرت العادة في تلحين القصائد التقليدية ، ما سمح له بتكرار أداء الشطرة الواحدة ، بناء على جمل لحنية قصيرة ، تتلون فيها المقامات الموسيقية ، و ما سمح لأم كلثوم بتلوين أدائها ، تعبيراً وتطريباً ، حسبما يقتضيه الحال ، ما جعل الأغنية تقدم بالنتيجة وجبة لحنية متكاملة ، قدمتها أم كلثوم باقتدار!
تجدر الإشارة إلى أن الشيخ أبا العلا محمد كان سجل القصيدة قبل أن تسجلها أم كلثوم ، كما سجلتها السيدة فتحية أحمد ، لاحقاً ، في الأربعينات من القرن الماضي.
ملاحظة : بما أن التسجيل صوتيٌ ، فقد أضفتُ له صورة ، من أجواء القاهرة ، في عشرينات القرن الماضي ، عندما سُجلت الأغنية.
نص القصيدة:
أماناً أيها القمر المطل * فمن جفنيكَ أسيافٌ تسلُّ
يزيد جمالُ وجهك كل يوم * ولي جسدٌ يذوب ويضمحلُّ
وما عرف السقام طريق جسمي * ولكن دلُّ من أهوى يدلُّ
يميل بلحظه السحري عني * صدقتم إن ضيق العين بخلُ
إذا نُشرت ذوائبه عليه * رأيت الماء رفَّ عليه ظلُّ
أيا ملك القلوب فتكت فيها * وفتكُكَ في الرعية لا يحِلُّ
قليلُ الوصل ينفعها فإن لم يصبها وابلٌ منه فطلُّ
للوصول إلى نسخة المقال PDF قابلة للتنزيل أنقر على الصورة أدناه