كلنا يعرف قصة الخلاف الشهير بين عبد الحليم حافظ وأم كلثوم ، الذي ظهر للعيان ، بحضور الرئيس جمال عبد الناصر ، و رؤساء دول آخرين ، في الحفل الذي أقيم في سياق الاحتفالات بعيد الثورة عام 1964 ، عندما رغبت أم كلثوم ، في أن تغني أولاً ، ليختتم عبد الحليم حافظ الحفل ، على غير العادة ، إذ كان برنامج الاحتفال بعيد الثورة ، يتضمن أداء عبد الحليم لوصلته الغنائية ، قبل أم كلثوم ، لتختتم هي الحفل.
في احتفال عام 1964 ، غنت أم كلثوم ، حسب رغبتها ، أولاً ، وأطالت ، وارتجلت ، وفرَّدت ، حتى ساعة متأخرة ، ماجعل دور عبد الحليم يتأخر كثيراً ، ليقف عبد الحليم ، ويعلن في الحفل صراحة ، أن هذا كان مقصوداً من أم كلثوم!
ولكن السبب الحقيقي لهذا الخلاف العلني غير المسبوق ، لم يكن ، في رأيي ، تلك الإطالة من قبل أم كلثوم فقط ، بل كان هناك أسباب خفية ، تطورت على مدى سنوات ، و وصلت إلى ذروتها ، عندما قدمت السيدة أم كلثوم ، قبل أشهر من ذلك الحفل ، أغنية جديدة من ألحان ملحنه محمد الموجي: للصبر حدود! نعم لقد كان الخلاف خفياً ، استمر على مدى تسع سنوات ، قبل تلك الليلة ، و كان عبد الحليم فيه هو البادئ.. كما سنرى!
بداية الخلاف
بدأ الخلاف ، في رأيي ، في عام 1955 ، عندما قدم عبد الحليم أغنية ” يا سيدي أمرك ” ، في سياق فيلم ” ليالي الحب ” ، من ألحان محمود الشريف ، وكلمات فتحي قورة ، وغنى فيها مشهداً ، بأسلوبٍ ساخر ، على لحن قصيدة ” وحقك أنت المنى والطلب ” ، لأبي العلا محمد ، والتي اشتهرت بصوت أم كلثوم ، إذ قال :
وحقك أنت المنى والطلب والله يجازي اللي كان السبب
ولي فيك يا والدي قصة تُغيّر مجرى حياة الطرب
كان هذا تصريحاً خطيراً منه ، بأنه سيغيِّر مجرى حياة الطرب ، على لحنٍ لأغنية غنتها السيدة أم كلثوم ، فهل من رسالة أوضح من هذا ؟ ولكن ، هل كان وضعه يسمح له بذلك ؟ لقد كانت رسالة سابقة لأوانها ، وقد حصد نتيجتها بعد سنوات!
الرد الأول
لم تتأخر أم كلثوم في الرد ، إذ قامت ، وفي العام ذاته ، بدعوة محمد الموجي وكمال الطويل ، وهما جناحا عبد الحليم في عالم التلحين ، لتلحين أغانيها في المسلسل الإذاعي رابعة العدوية ، إلى جانب رياض السنباطي ، و عندما نجحت الألحان ، تحول المسلسل الإذاعي إلى فيلم في عام 1963 ، ما أعلم الجميع بأن الموجي والطويل لحنّا للست ، سينمائياً ، خارج إطار الأغاني الوطنية التي كانا قد لحنّاها لها ، وشجعها على الخطوة التالية: التكليف سينتقل إلى الأغاني العاطفية ، التي تغنيها على المسرح ، وهي التي تحقق الشهرة الأوسع ! طبعاً كان بليغ حمدي قد بدأ في هذا الإطار معها في عام 1960 ، ولكن بليغ لم يكن أساسياً في عالم عبد الحليم ، حتى تلك الفترة.
تكليف الموجي
شجع نجاح أغاني فيلم رابعة العدوية السيدة أم كلثوم على تكليف الموجي علناً بألحان عاطفية ، في فترة كانت العلاقة بينه وبين عبد الحليم تمر بفترة برود ، وإن كان من المحتمل ، أنها كانت حاولت تكليفه بذلك ، مع دخول بليغ عالمها التلحيني ، عام 1960 ، دون أن تنجح .
المهم أنها نجحت في الاتفاق معه ، في عام 1963 ، على أن يلحن لها عدة أغانٍ ، إلا أن الموجي تلكأ ، لدرجة أنها أقامت عليه دعوى قضائية ، منتصف ذلك لعام ، لتسليمها الألحان ، وأعتقد أن التلكؤ لم يكن بسبب افتقاده للإلهام ، كما قال في المحكمة ، بل لأنه كان يعلم أن تلحينه لأم كلثوم ، سيضر كثيراً بعبد الحليم ، وبعلاقته معه .
بالنتيجة لحَّن الموجي أغنية ” للصبر حدود ” ، تحت ضغط أم كلثوم ، وسلمها اللحن ، قبيل أيام من حفلها الشهري الأول في عام 1964 ، فسارعت لتقديم الأغنية في ذلك الحفل ، بعد أصبح في يدها الرد ، على من قال بأنه سيغير حياة الطرب!
الاهتمام بالأغنية
قدمت السيدة أم كلثوم أغنية للصبر حدود ، للمرة الأولى ، في يوم 2 كانون الثاني/ يناير 1964 ، على مسرح حديقة الأزبكية ، في أول تقديم عام لها ، ثم أعادتها بعد ثلاثة أسابيع ، أي يوم 25 كانون الثاني/ يناير 1964 ، على مسرح نادي الشرطة ، ثم أعادتها ، في 6 شباط / فبراير 1964 ، على مسرح حديقة الأزبكية ، مع إنت عمري ، لأول مرة ، لتضع الموجي في موقع مقارب لعبد الوهاب ، ثم أعادت تقديمها على مسرح قصر النيل في 7 أيار/ مايو 1964 ، أي قبيل الاحتفال بعيد الثورة ، و أيضاً مع إنت عمري ، وشدت فيها بتفريدات مطربة عند : أكثر من مرة عشقتك ، أشعلت حماس جمهورها ، ثم خطت الخطوة الأخيرة ، عندما طلبت أن تغني قبل عبد الحليم ، في حفل عيد الثورة في 23 تموز / 1964 ، ثم عندما طالت وصلتها ، مع تفريدات وارتجالات ، أشعلت حماس الجمهور ، وتسبب في إخماد أي نوع آخر من الغناء سيأتي بعدها ، مهما كان!
فهم عبد الحليم الرسالة المزدوجة ، التي كان أساسها أنه لن يكون قادراً على تغيير حياة الطرب ، فأغانيه بعد ما قدمته هي في ذلك الحفل لن تنجح ، و ملحنه الأساسي تبين أنه كان قادراً على تمثل أسلوب السنباطي ، في تقديم أغنياتٍ ناجحة لها على المسرح ، ما سيكشف أن قدرات عبد الحليم في مجال الطرب ، ليست كافية لدخول هذا المعترك الصعب! وهكذا لم يستطع أن يتمالك غضبه ، وكان ما كان!
الأغنية / المقام الموسيقي
اختار الأستاذ الموجي مقام الهزام ( راحة الأرواح ) ليبني لحنه عليه ، وهو من المقامات الشرقية التي تستقر على درجة صوتية ، تعتمد على أرباع الأصوات ( مي نصف بيمول للموقع الأساسي للمقام ) ، وهذه نقطة أود التوقف عندها ايضاً ، لأنها تكشف تشوُّق ملحني عبد الحليم للتلحين لأم كلثوم!
قمت بإحصائية لتحديد نسب المقامات ، التي غنّى عبد الحليم أغنيات بنيت عليها ، فكانت كما يلي :
جاء 18% من أغاني عبد الحليم ، على مقام النهوند ، و 45% منها ، على مقامي الكرد واللامي ، و 18% منها ، على مقام العجم ، وهي مقامات خالية من أرباع الأصوات ، بمجموع 81% ، وهي نسبة عالية ، أما المقامات الشرقية ، التي تتضمن أرباع الأصوات ، فقد أتت بمجموع 19% فقط ، وفق التالي : الراست 3% ، الحجاز 10% ، الهزام 4% ، متفرقات 2% . وفي اعتقادي أن هذا كان خياراً من عبد الحليم للابتعاد عن عالم الطرب ، وكذلك لأن قدراته في أداء التضاريس اللحنية التطريبية كانت محدودة ، وهو ما ظهر بوضوح ، عندما غنى ” لحن الوفاء ” من ألحان رياض السنباطي ، إضافة إلى تأثره بدراسته للموسيقى الغربية ، الخالية من أرباع الأصوات ، إذ درس العزف على الأوبوا ، في المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة.
سأتوقف اليوم فقط عند المشهد الأخير من الأغنية والنص الذي كتبه عبد الوهاب محمد:
ماتصبرنيش ما خلاص أنا فاض بيَّ ومليت
بيِّن لى إنت الإخلاص وانا أضحي مهما قاسيت
ده مفيش فى الدنيا غرام بيعيش كده ع الأوهام
والحب الصادق عمره مايحتاج لكلام
وكفاية وانا بهواك خلصت الصبر معاك
وبأملي أعيش ولو إنه ضيَّع لى سنين فى هواك
وَهي غلطه ومش ح تعود
ولو ان الشوق موجود وحنينى اليك موجود
إنما للصبر حدود
الأغنية / بناء اللحن
بني لحن هذا المشهد ، على تناوبٍ بين الألحان الموقَّعة والمرسلة ، حقق جرعة درامية واضحة ، إذ يبدأ الغناء بذروة لحنية استنكارية ، مع الإيقاع ، لينتقل إلى غناء مرسل ، عند : ده ما فيش في الدنيا غرام ، ليعاود الغناء الموقّع عند : وكفاية وانا بهواك ، في ذروة لحنية جديدة ، يتبعها غناء مرسل عند : وَهي غلطة ، ليعود الإيقاع عند : و مش ح تعود ، في إيقاع بطيئ متهالك ، يعبر عن التعب من هذا الموضوع ، ليتصاعد اللحن عند كلمة للصبر حدود ، ويختتم الأغنية.
الأغنية / التعبير
التعبير في لحن هذا المشهد من الأغنية طاغٍ ، يعبق بالتصاعدات اللحنية المعبرة عن الاستنكار عند : ما تصبرنيش ما خلاص ، مليت ، إنما للصبر حدود ، والتخافضات ، المعبرة عن الحسرة عند : مهما قاسيت ، التي تحقق الجسر للانتقال إلى الغناء المرسل ، ضيَّع لي سنين ، وَهي غلطة ، و كذلك التي تنقل إعلاماً أو حكمة ، في غناء مرسل دون إيقاع ، عند : دا مفيش فى الدنيا غرام بيعيش كده ع الاوهام ، والتضادّات اللحنية ، في ختامات الجمل اللحنية ، من خلال تصاعدٍ بعد تموُّج عند : غرام ، الأوهام ، لكلام ..
تجاوز الخلاف مع أم كلثوم ، عودة الموجي لعبد الحليم
لم يعد عبد الحليم للغناء مع أم كلثوم في عيد الثورة ، ففي عام 1966 غنى في حفل ثانٍ أقيم في الإسكندرية ، على غير العادة وحضره عبد الناصر ، ترضية لعبد الحليم ، لتتوقف الاحتفالات مع نكسة حزيران 1967 ، فيما انتهى الخلاف بقبلة طبعها عبد الحليم على يد أم كلثوم ، دون أن يعتذر صراحة ، ليعود الموجي إلى عبد الحليم ، بعد سنوات من البرود ، ويفتتح معه خط القصائد ، مع قصيدة حبيبها عام 1965 ، انطلاقاً من مسارٍ لحني ، كان وضعه عبد الوهاب ، في قصيدة لا تكذبي ، التي لحنها لنجاة ، وغنتها في فيلم ” الشموع السوداء ” ، عام 1962 ، ليغنيها عبد الحليم في حفل عام ، ما أغضب نجاة ، ولكنه ، في رأيي ، فعل هذا ، لأنه كان يشعر بالحاجة إلى هذا الأسلوب ، في تلحين القصائد ، الذي يجعله يتوازن قليلاً ، أمام أغاني أم كلثوم ، على المسرح ، ولم يكن أمامه في هذا المجال ، إلا أن يعود إلى الموجي.
وأخيراً
قيل بأن السيدة أم كلثوم ، لم تكن راضية عن لحن هذا المشهد الأخير ، لدرجة أن الموجي كان سينسحب ، وحسناً فعل ، إذ أن هذا المشهد ، كان الأنجح في الأغنية ، ولو كان قبِلَ ، وأعاد النظر فيه ، لكان نجاح الأغنية أقلّ ، ولكن لعل أم كلثوم ، كانت ترددت في الإقدام على ما فعلته ، يوم الاحتفال بعيد الثورة ، لحسم خلافٍ ، كان عبد الحليم فيه ، هو البادئ!