تشكل ذكرى ولادة عاصي رحباني ، التي تحل في الرابع من شهر أيار / مايو ، فرصة للتوقف عند الرسائل التي أطلقتها السيدة فيروز منذ أربعة أعوام ، في أغنيات ختمت بها مسارها الفني ( حتى الآن ) ، وأكدت فيها افتقادها لوجود عاصي ، كرفيق عمر ، وكملحن!
بدأت تلك الرسائل تظهر مع تقديم فيروز أغنية : لمين ، التي بنيت على لحن ونص أغنية للمغني الفرنسي جيلبير بيكو ، كان أطلقها عام 1957 بعنوان : Pour qui veille l’étoilee ? ، أي لمن تسهر النجمة؟ من كلمات بيار ديلانوي و ألحان لوي أمادي وجيلبير بيكو.
سأتوقف قليلاً عند هذه الأغنية ، لأنها أطلقت رسائل فيروز الأخيرة ، لتأتي الأغاني اللاحقة كتأكيد لتلك الرسائل . تقول كلمات الأغنية باللغة الفرنسية:
Pour qui veille l’étoile ?
Pour qui ? Pour quoi les nuits s’envoilent?
Pour toi ou bien pour moi ?
Ou bien pour rien ?
Rien, rien, rien…
****
Pour qui pleure le saule ?
Pour qui ?
Pourquoi tourne le pôle ?
Pour toi ou bien pour moi ?
Ou bien pour rien ?
Rien, rien, rien
لنتابع أغنية جيلبير بيكو
قامت السيدة ريما رحباني ابنة عاصي وفيروز بترجمة الكلمات لتكون :
لمين .. بتسهر النجمة
لمين ليش بتخلص العتمة
إلك أو إلي أو مش لشي مش لشي ولا أي شي
لمين بيبكي الحور
لمين ليش الأرض بتدور
إلك أو إلي أو مش لشي مش لشي ولا أي شي
النص ، كما أغلب نصوص أغاني جيلبير بيكو ، حمّالُ أوجه ، إذ يمكن اعتباره طرحاً لأسئلة عن أسباب الحياة والوجود ، كما يمكن افتراض أنه يعبر عن تلاشي معنى الحياة إلى العدم ، عند افتراق المحبين.
أنا أرى أن فيروز رأت في تلك الأغنية المعنى الثاني ، لتطلقها في ذكرى رحيل عاصي قبل أربعة أعوام ، و لترثيه وتقول : بعد فراقنا ، لم يعد للحياة معنى! وهي هنا تطلق رسالتها الأولى : الحنين إلى الماضي ، إلى عاصي .. رفيق العمر .
لنتابع أغنية لمين
الرسالة الثانية التي حملها التسجيل كانت بأن صوتها بدا في التسجيل نقياً وصافياً ، نسبة إلى عمرها ، ما يحرض بالضرورة أسئلة عن الأسباب التي تبعدها عن إطلاق أغانٍ جديدة ، طالما أن صوتها متماسك لهذه الدرجة ؟ وهذا السؤال بحد ذاته يولد الرسالة الثالثة ، التي لم تكن لتولد لو كان صوتها قد ضعف وانتهى الأمر : سبب التوقف عن إطلاق أغنيات جديدة هو الافتقادُ المرُّ إلى الملحن الأثير لديها ، الذي رسمت مجدها ونجوميتها معه: عاصي .. فهاهي تلجأ ، بعد تجارب مع ملحنين آخرين ، ومنهم ابنها زياد ، إلى لحنٍ قديم لتنشره في ذكرى رحيله ، وليس إلى لحن جديد ، لتؤكد افتقادها له كملحن.
ولاحقاً ، عندما ظهر ألبوم فيروز : ببالي ، وجدنا أنه أكد على الرسائل ذاتها : افتقاد رفيق العمر والملحن ، ، إذ ركزت فيه فيروز أيضاً على تقديم أغنيات شهيرة ، تعود لفترة الستينات معرَّبة بقلم السيدة ريما ، و أغلبها يتحدث عن ذكريات مضت!
وبالنتيجة ، فإن تركيز فيروز على أن تغني مجموعة أغنيات لحنت سابقاً ، لا تشكل فيما بينها قواسم موسيقية مشتركة ، تسمح بأن نعتبرها مشروعاً موسيقياً متكاملاً ، يشي بأنها كرست صوتها ، الذي لا يزال يقاوم الزمن ، لذكرياتها في زمن مضى ، مع رفيق عمرها و ملحنها الأثير، و بأنها تصرخ ، ولو بصوت مكتوم ، مع مرور الزمن ، وتلاشي قدرات الصوت: واملحناه!