يرتبط شهر رمضان المبارك ، في ذاكرة أهل الشام ، بالمنشد الراحل توفيق المنجد ، الذي كان يُثري ليالي رمضان ، بإنشاده الوجداني الرائع.
أنشر اليوم هذا التسجيل المقتطف ، من إحدى حلقات برنامجي التلفزيوني ” العرب والموسيقى ” ، وكنت سجلتها في إحدى ليالي شهر رمضان ، نهاية الثمانينات ، وخصصتها للإنشاد الديني في دمشق ، من خلال سيرة الملحن و المنشد الراحل ” سعيد فرحات ” ، حيث استضفت فيها عدداً من رفاقه و زملائه ، المنشدين والموسيقيين.
كان الحديث يدور حول إعادة توظيف الألحان الدنيوية ، لتدخل بشكل ملائم عالم الأناشيد والابتهالات الدينية ، وهو أسلوب ترسخ في دمشق منذ زمن بعيد ، و ألخص مساره بعد قليل.
طلبت من بلبل الشام توفيق المنجد ، أن يقدم أمام المشاهدين ، مثالاً من واقعٍ معاش ، فقال بأن سعيد فرحات ، طلب ، في حينه ، من الشيخ حسن التغلبي ، أن يضع نصاً جديداً لإحدى الأغاني التي كانت شائعة: قمر له ليالي ، من ألحان داود حسني ، على مقام الراست ، ليغنيه في شكله الجديد ، في سياق المناسبات الدينية.
طلبتُ منه أن يؤدي لنا هذا اللحن ، بكلماته الجديدة ، وشكله الجديد ، وعندما أدّاه ، عدتُ فطلبت منه أن يؤدي الأغنية الأصلية ، وهكذا كان!
وفي الواقع ، فإن أسلوب إعادة توظيف الألحان الدنيوية ، لتدخل عالم الإنشاد الديني ، كان قد وُلد في الأندلس ، ثم ترسخ في دمشق . أوجز لكم فيما يلي أسباب الولادة ، والانتقال ، والاستقرار في دمشق:
الموشح الأندلسي والموشح المكفر
كان الإمام محي الدين ابن عربي ، قد أرسى ، مع أئمة آخرين في عالم التصوف ، وبخاصة في الأندلس، أسلوباً جديداً لرفد عالم التصوف بالألحان ، بعد أن تم اعتماد الغناء ضمن طقوسه. سمي هذا الأسلوب : الموشح المكفر.
كانت الأندلس في تلك الفترة ، تختزن أعداداً كبيرة من الموشحات الأندلسية ، المغناة أساساً في مواقع الغناء الدنيوية . وكان عالم التصوف يفتقر إلى الألحان ، المساعدة على أداء الغناء ، ضمن طقوسه ، وهكذا نشأ الموشح المكفر، وهو عبارة عن لحنٍ لموشح دنيوي ، يُجرد من نصه الأصلي الملائم للغناء الدنيوي ، ويكسى بنص جديد، يلائم الأغراض الجديدة. وبما أن اللحن أصبح مساهماً بشكل أو بآخر في طقوس التصوف، فإنه سيساهم في التكفير عن ذنوب صاحبه الملحن ، كما أنه سيساهم كذلك في التكفير عن ذنوب من نظم نصَّه الجديد ، مما استدعى تسميته بالمكفر.
انتقل هذا الأسلوب مع الإمام ابن عربي ،عندما استقر في دمشق ، للإقامة فيها ، وسار هذا الأسلوب حتى أيامنا هذه ، إذ أصبح من الشائع أن تجد لحناً لموشح ، يتوافق مع عدد كبير من النصوص الصوفية الجديدة ، المصاغة شعراً ، مما دفع أحد أهم من نظموا على هذا الأسلوب ، وهو الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي ، إلى أن يذكر اسمه في صلب نصه الخاص ، كنوع من التوقيع، خشيةً من أن يُنسب لغيره في وقت لاحق!
القدود الصوفية
بعد انتشار أسلوب الموشح المكفر في الطقوس الصوفية ، انتبه الشيخ النابلسي ( توفي عام 1730 م ) ومن بعده آخرون ، كالشيخ عمر اليافي ( توفي عام 1818 م ) ، والشيخ أمين الجندي الحمصي ( توفي عام 1841 م ) ، إلى مخزون حلب الكبير من ألحان القدود والموشحات ، وإلى الألحان الشعبية في دمشق والمدن الأخرى ، فقاموا جميعهم ، والنابلسي أولهم ، بوضع نصوص شعرية جديدة لها على الغالب ، وبالعامية أحياناً ، من صياغتهم ، تلائم أغراض طقوس التصوف ، وهكذا نشأ ما يمكن أن نسميه القدود الصوفية ، أو القدود الدينية ، التي استفادت لاحقاً من الألحان التي ولدت في مصر ، خلال فترة النهضة الموسيقية العربية المعاصرة ، فكان أن طبَّق سعيد فرحات الأسلوب ذاته ، على أغنية ” قمر له ليالي ” ، ليؤديها لنا بلبل الشام ، في صورتيها الدينية والدنيوية، في إحدى ليالي رمضان التلفزيونية ، منذ 30 عاما!
أما قواعد انتقال لحنٍ بين العالمين الدنيوي والديني ، فلها حديثٌ آخر!