كانت حياة ناظم الغزالي قصيرة ، إذ عاش 42 سنة ، بين عامي 1921 و 1963 ، استطاع خلالها أن يجدد التراث الغنائي العراقي ، وأن ينشره في العالم العربي ، مستفيداً ولو لبرهة عابرة من الزمن ، من تطور تقنيات العصر ، التي سمحت بنشر ناتجه الغنائي ، بصورته الجديدة ، عبر الحدود.
بدأ ناظم الغزالي حياته الفنية ممثلاً ، فيما أفاده كثيراً في سنواته اللاحقة ، إذ أضاف مسحة درامية على غنائه . جذبه حبه للغناء ، واستماعه الدائم ، عبر الإذاعة ، لأغاني أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وليلى مراد ونجاة علي، و حفظه لأغانيهم ، إلى عالم الموسيقى العربية ، وتسبب أداؤه لتلك الأغاني ، في الكشف عن موهبة نادرة ، وعن صوت مميز بطبيعته ، ما وجهه نهائياً إلى عالم الغناء .
بدأ أولاً بكتابة مقالات في مجلة ” النديم ” ، تحدث فيها عن أشهر المغنين العرب ، ثم تفرغ للغناء ، فتقدم إلى إجراء اختبارٍ في الإذاعة. سمعه الشيخ علي الدرويش ، الأستاذ السوري الكبير ، الذي كان يشرف على فرقة الموشحات في إذاعة بغداد ، فضمه إلى الفرقة ، حيث أصبحت الإذاعة ، المدرسة التي تعلم فيها الغناء.
ركز ناظم الغزالي جهوده لاحقاً على حفظ المقامات العراقية ، أولاً ، فاتصل بأستاذ المقام العراقي محمد القبنجي ، ونهل منه الكثير من المعارف ، ثم ركز على نشر تلك المقامات ، ثانياً ، في أسلوب أكثر معاصرة ، فيما يمكن مشابهته ، مع مسار الأستاذ صباح فخري في سورية ، دون أن يبعد عنها نبرة الشجن التي تغلفها وتميزها ، بل استطاع ، على العكس ، أن يضيف عليها ، بجسده ووتعابير وجهه ، أداءاً درامياً معبراً ، كان اكتسبه من بداياته في عالم التمثيل .
لم يلق أسلوبه الجديد المعبر القبول دائماً ، من قبل قرّاء المقام العراقي التقليديين.
سعى الغزالي ، لانتقاء قصائد من عيون الشعر العربي ، ليدمجها في التراث الغنائي العراقي ، في غناء مرتجل ، تم تثبيت لحنه لاحقاً ، وهو ما فعله صباح فخري أيضاً. غنى الغزالي من أشعار كبار الشعراء العرب ، أمثال البهاء زهير ، وإيليا أبو ماضي ، وغيرهم ..
قصيدة شيّعتُ أحلامي
أتوقف اليوم ، مع ناظم الغزالي ، في أدائه لقصيدة : شيَّعت أحلامي بقلبٍ باكِ.
تقول القصيدة :
شيعتُ أحلامي بقلبٍ باكِ
ولممتُ من طرق الملاحِ شِــــباكِ
ورجعتُ أَدراجَ الشباب ووِرْدَه
أَمشي مكانَهما على الأَشواكِ
ويح ابن جنبي كلُّ غايةِ لذةٍ
بعد الشــَـــباب عزيــزة الإدراكِ
لم تبقَ مِـــــــــــنا يا فؤادُ بقيةٌ
لفتوة ٍ أو فضلة ٌ لعـــــــِـــراكِ
كنا إذا صفقتَ نستبقُ الهوى
ونشدُّ شدَّ العصبة ِ الفُتـــــــاكِ
واليوم تبعث فيَّ حين تَهزني
ما يبعثُ الناقوسُ في النُسـاكِ
اللافت في هذه القصيدة ، أولاً ، أنها لأمير الشعراء أحمد شوقي ، وقد أتت في سياق عملية إدماج قصائد من عيون الشعر العربي ، في خلايا التراث الغنائي العراقي ، بطابعه المميز . جاء هذا الإدماج ، عندما غنّى الغزالي هذه الأبيات من القصيدة على مقام الأورفه ، وهو أحد المقامات العراقية ، الذي يتوافق في درجاته الصوتية ، مع الدرجات الصوتية لمقام البيات ، ولكنه يستقر على درجة الحسيني ( اللا ) ، كما يتميز بمساره اللحني الخاص ، الذي سنميزه منذ بداية التسجيل ، في التغني الذي يؤديه الغزالي بكلمة أمان .
وفي الواقع ، شكل هذا الإدماج إغناءاً للمقامات العراقية ، بعناصر تأتي من خارجها ، وتنسجم معها ، خاصة إن عرفنا ، أن ما يميز تلك المقامات ، هو أنها لا ترتبط بدرجات موسيقية محددة فقط ، كما هو الأمر في باقي دول المشرق العربي ، و إنما ترتبط بمسار لحني خاص ، و بجمل لحنية مميزة ومتكررة ، في سياق قراءة المقام ، لها إيقاعية داخلية ، تميز المقام عن غيره ، وبالتالي ، عندما تنسجم أبياتٌ من الشعر العربي ، ليست من التراث الغنائي العراقي أصلاً ، مع الإيقاعية الداخلية للمقام العراقي ، فإن هذه عملية دقيقة ليست بالسهلة ، وقد نفَّذها الغزالي باقتدار!
اختيارات لافتة
ولكن اللافت أكثر هو ، الطريقة التي اختار الغزالي من خلالها ، الأبيات التي غنّاها ، من إحدى قصائد شوقي الشهيرة .
القصيدة الأصلية ، قد لا تخطر على بال الجميع ، إذ أنها ذات القصيدة التي اشتهرت ، عندما غنّى محمد عبد الوهاب أبياتاً منها ، باسم : يا جارة الوادي! وكان شوقي نظمها ، معبراً عن إعجابه الشديد بمدينة زحلة اللبنانية ، وطبيعتها الغنّاء الآسرة ، أما طريقة الاختيار ، التي اعتمدها الغزالي ، فقد حولت القصيدة ، من قصيدة وصفٍ لمدينة أعجب شوقي بها ، إلى قصيدة عاشقٍ ، فاجأه الحب في نهايات حياته!
الغريب أن الغزالي ، في هذا الاختيار ، وكان لايزال شاباً ، بدا وكأنه يستشعر قرب نهاية حياته ، وأنا ، في هذا الإطار بالذات ، أدعوكم لسماع هذه القصيدة ، و التركيز على الشجن الذي يغلف أداء الغزالي.
جاءت القصيدة في التسجيل الصوتي على مقام الأورفه ، كما أسلفت ، وامتد الأداء على مساحة صوتية قدرها 10 أصوات موسيقية . ابتدأ الغزالي الغناء بالتغني بكلمة أمان ، في الأسلوب المميز لمقام الأورفه ، ليدخل بعدها في أداء القصيدة ، بالشكل المرتجل المعهود عنده ، وعند انتهاء القصيدة عاد للتغني بكلمة أمان ، كجسر للدخول في البسته ( الأغنية ) الشهيرة في التراث العراقي: افراگهم بچاني ( فراقهم بكّاني ) ، على ذات المقام .
تجدر الإشارة إلى أن الغزالي في سياق أدائه للقصيدة ، انتقل إلى مقام البيات على درجة المي جواب ، وفق ما يقتضيه مقام الأورفه ، الذي يتشكل مساره اللحني من إبراز جنسي البيات على اللا وعلى المي جواب ، ما يجعله يجول في منطقتي الأصوات المتوسطة والحادة ، وهو ما أكسب أداء الغزالي لمعاناً خاصاً ، إذ سمح له بالتركيز على منطقة الأصوات الحادة ، وهي المنطقة الأجمل في صوته ، كما أنه مر ، أي الغزالي ، على مقام الحجاز عند : لم تبقَ مِـــــــــــنا يا فؤادُ بقيةٌ ، للاستفادة من التوقفات المعبرة عن الحسرة ، عند الدرجة الثالثة من جنس الحجاز ، في تعبيرية مقامية لافتة ، قبل أن يعود إلى مقام الأورفه. ( للموسيقيين ومن يرغب: الأداء كان بالطبقة الموسيقية الكبيرة ، أي بتخفيض عام للأصوات بمقدار درجة صوتية واحدة ).
التسجيل البصري
شكّلتُ لهذه القصيدة ، بغاية حفظها وتقديمها بصرياً ، صورةً لها ، من أحد التسجيلات التلفزيونية الأخيرة في حياة ناظم الغزالي ، إذ أن وفاته تزامنت نسبياً مع ولادة التلفزيون ، في بداية الستينات في العالم العربي. حيث قام الغزالي ، قبيل وفاته ، بجولة على عدة عواصم الدول العربية ، فسجل لصالح التلفزيون السوري ، ولصالح التلفزيون اللبناني ، تسجيلات عديدة ، حفظت بعض تراثه بصورة بصرية .
اخترت من تلك التسجيلات التلفزيونية الأخيرة ، التي سجلها قبيل وفاته ، صوراً لإغناء التسجيل الصوتي المتوفر للقصيدة ، لأنها ترينا كم كان هذا المغني الشاب نضراً وحيوياً ومعبراً ، لنتساءل كيف اختار أبياتاً من قصيدة ، تعبر بالعكس ، عن نهايات الحياة ، فغنّاها ، و إذ بحياته تنتهي فعلاً ، قبل الأوان!