أنشر اليوم هذا المقال الذي أوضح فيه الأساس الذي استقى منه الأستاذ محمد القصبجي تغريدات أسمهان في مونولوج ياطيور.
وفي الواقع فإن الأستاذ القصبجي لم يقتبس جملاً لحنية بعينها ، وإنما استلهم من الأسلوب الغنائي ، الذي اعتُمد في الموسيقى الكلاسيكية الغربية ، لمشابهة تغريدات البلابل ، وبنى عليه ، في أسلوب مخطط ومبدع.
بناء التغريدات و مواقع الاستلهام
جاءت تغريدات أسمهان في أربع جمل لحنية ، بنيت بحيث تكون متصاعدة بالتدريج ، موسيقياً ، لتصل إلى الذروة في ختام الأغنية ، التي أدتها أسمهان باقتدار قل نظيره ، على الأقل في عالمنا العربي ، وإن كان ، في القدرة على التلَوُّن ، بين الأسلوبين الشرقي والأوبرالي ، في الأغنية ، وفي الشجن الذي غلَّفها ، فريداً في العالم!
الاستلهام المباشر الأكثر بروزاً ، كان في ثوانٍ عابرة ، من فالس ” أصوات الربيع ” ليوهان شتراوس ، الذي أنشر اليوم له تدريباً ، ورد في مشهد في فيلم ” أزهار نيس ” عام 1936 ، وقد أدته إرنا زاك ، وهي مغنية سوبرانو كولوراتيورا ألمانية ، عُرفت بقدرتها الفائقة ، على الوصول بصوتها إلى مستويات حادة ، ندُر أن نفذها أحد قبلها!
فيديو خاص لشرح الموضوع
قمتُ بتشكيل الفيديو المرفق ، لشرح الموضوع ، وفق التالي:
يبدأ الفيديو بعرض تغريدات أسمهان الأربعة ، في مونولوج يا طيور ، مقتطفةً من سياقها في المونولوج ، لبيان تصاعدها اللحني التدريجي ، و للتأكد من أنها جاءت في بناء مخطط ومبدع ، و من أن لحن القصبجي كان مدروساً بدقة. طبعاً نستطيع لدى إعادة الاستماع إلى مونولوج يا طيور ، التأكد من أن هذه التغريدات ، اندمجت في نسيج المونولوج ، المغنى باللغة العربية ، بكل سلاسة ، وهذا إبداعٌ بحد ذاته ، لحناً وأداءاً!
نلاحظ أولاً ، أن التغريدة الأولى ، كما سنسمع ، تقع في منطقة الأصوات المتوسطة ، وأن ذروتها ليست حادة تماماً ، لتأتي التغريدة الثانية في ذروة أكثر حدة من الأولى . أما التغريدة الثالثة فذروتها أكثر حدة مما سبقها ، لتنتهي التغريدات بتغريدة رابعة و أخيرة ، تستعيد منطقة الأصوات المتوسطة في بدايتها ، لتصل في ذروتها إلى أكثر الأصوات حدة في مجمل الأغنية.
إذاً هو بناء مدروس ، لإدماج التغريدات الأربعة في خلايا المونولوج ، يتصاعد بالتدريج ، لكي يعطي التأثير الأقوى ، مع الوصول إلى الذروة الأخيرة في نهاية الأغنية.
أعرض بعد ذلك ، في المقطع التالي ، وهو الخامس في الفيديو ، إلى أسلوب تغريد البلابل المعتمد في الموسيقى الكلاسيكية الغربية ، من خلال فالس ” حكايات غابات فيينا ” ليوهان شتراوس الإبن ، و أداء ميليزيا كورجس ، وذلك لإعطاء فكرة عامة ، عن هذا الأسلوب.
أنتقل بعد ذلك في المقطع التالي من الفيديو ، إلى مشهد من فيلم ” أزهار نيس ” الذي عُرض عام 1936 ، و يصورُ تدريباً على فالس ” أصوات الربيع ” ليوهان شتراوس ، تقوم به إرنا زاك ، يتضمن المشهد الذي تم منه الاستلهام العابر في مونولوج القصبجي : يا طيور ، ثم أكرر عرض ذلك المشهد للتأكيد ، لأنهي الفيديو مع تكرار التغريدة الأخيرة في ياطيور ، التي تم فيها الاستلهام العابر ، وبصوت أسمهان طبعاً.
يهمني هنا أن أبين ، في المقارنة في الأداء بين إرنا زاك وأسمهان ، مدى القدرة على إبراز العاطفة عند أسمهان ، فيما أتى أداء إرنا زاك محايداً تقنياً .
كما ألفت النظر إلى أن إرنا زاك ، في التدريب المصور في الفيلم ، كانت تنهي على درجة صوتية مختلفة قليلاً ، عما كانت آلة البيانو تؤديه ، فيما يفترض التطابق الكامل بينهما ( هناك نشاز مقصود ) ولذا كان المدربة تتطلع إليها بغضب. كان القصد إبراز مدى صعوبة إطلاق التغريدات بدون مرافقة الموسيقى ، ثم العودة للمتابعة مع الموسيقى ، دون أي فرق بين طبقة الصوت وطبقة الموسيقى ، وهذا ما أدته أسمهان باقتدار لا يضاهى!
بالنتيجة: نعم .. لقد استلهم القصبجي تلك التغريدات من الأسلوب الكلاسيكي الغربي ، فبنى عليه جملاً لحنية جديدة من بنات أفكاره ، وأدمجها مع لحنه الشرقي ، في إبداع قلَّ نظيره!
لنتابع الفيديو الآن
فالس أصوات الربيع
يمكن الآن لمن يرغب متابعة التسجيل الكامل لفالس أصوات الربيع بصوت إرنا زاك.