أتت أغنية واجريحاه ، في سياق فيلم الشيماء ، الذي قامت ببطولته سميرة أحمد ، وغنت فيه ، في دقة لافتة ، بصورتها ، على صوت سعاد محمد. كانت سعاد قد اكتفت ، بعد الفيلمين اللذين قامت ببطولتهما : فتاة من فلسطين عام 1948 ، ثم أنا وحدي عام 1952 ، بأن تغني في الأفلام بصوتها دون أن تظهر، وقد جاء فيلم ” الشيماء” ، الذي كتب قصته أحمد علي باكثير، وأخرجه حسام الدين مصطفى ، عام 1972 ، و الذي نعرض لإحدى أغنياته اليوم ، في هذا الإطار.
الأغنية في الفيلم
تعيش الشيماء ، أخت الرسول عليه الصلاة والسلام في الرضاعة ، وابنة حليمة السعدية ، والحارث بن عبد العزيز ، مع أهلها ، في بنى سعد. عند انتشار أخبار الدعوة الإسلامية ، تلتحق الأسرة بالإسلام ، فيما يتحالف زوجها بيجاد مع أعداء أخيها ، فتقع بين خيارين ، إيمانها بالله ورسوله ، وحبها لزوجها. تأتي الأغنية في سياق الفيلم لتعبر عن ذروة هذا الصراع المأساوي ، بعد أن جُرح زوجها في قتال مع المسلمين.
النص
جاء النص الذي كتبه عبد الفتاح مصطفى في إثني عشر بيتاً ، وفي أربع مجموعات ، تشكلت كل مجموعة منها من ثلاثة أبيات. عرضت المجموعة الأولى المأساة : لم يعد زوجها مباحاً لها ، بعد أن حُرِّمت المؤمنات على المشركين ، لتعود المجموعة الثانية بالذكرى إلى الأيام الهانئة ، منتهية بضياع كل شيء ، ممهدة لطرح المجموعة الثالثة للضياع بين الفراق القادم والأمل بأن يلتحق زوجها بركب الإسلام ، لتنتهي القصيدة بالقرار الحاسم : إن لم يهتدِ لا كان حبه!
وا جريحاه وما يدري جراحي * كم قتيلٍ في الهوى دون سلاحِ
كنت لي زادًا وريًا وغرامًا * يحتويني في مسائي وصباحي
قد غدا وصلك لي غير مباحِ * ليت قلبي يطلق اليوم سراحي
***
في صبانا كم غفونا حالمين * وصحونا فغدونا عاشقين
ومضينا بالهوى نلهو ونشدو * وانتبهنا والليالي قد مضين
يا حبيبي منذ كم ذاك وأين * كل شيءٍ راح في غمضة عين
***
أفترقنا أم على وشك افتراق؟ * وانتهينا أم لنا في الحبِ راق؟
كلما سارت خطانا للتلاقي * كنت تأبى للخُطا غير الفراق
يا جريحاً دمه الغالي مراق * إن جرحي فيك نارٌ واحتراق
***
ربنا اغفر لي إذا قلت أحبه * إنما أطمع أن يبصر قلبه
إن يكن حبي له ذنبًا فحسبي * من رجا الغفران إذ يهديه ربه
يا إلهي قد نأى دربي ودربه * فإذا لم تهدِهِ لا كان حبه
اللحن
بنى محمد الموجي لحنه بكامله تقريباً على مقام الشد عربان ، مع إبراز عابرٍ ومبررٍ لجنس الراست في المجموعة الثالثة من الأبيات ، عندما تصف حالة زوجها : يا جريحاً دمه الغالي مراق ، وهذه ، أي تثبيت المقام ، حالة نادرة ، إذ أن تنويع المقامات في سياق الأغاني ، وخاصة التي لُحنت منها خلال فترة النهضة الموسيقية ، و حتى ضمن لحن البيت الواحد ، عنصرٌ مسيطر في الغناء العربي ، لأنه يعدُّ من المجالات التي يُبرز فيها الملحن قدراته على الانتقال السلس، أو المفاجئ بينها ! وأنا أرى أن الموجي اختار التثبيت النسبي المقام ، رغم الصراع الذي يعبر عنه النص ، لقناعته بأن هذا الصراع محسوم من البداية لصالح الإيمان ، على حساب الحب! فيما أوكل للجمل اللحنية ، و لأسلوب أداء سعاد محمد الرائع ، وظيفة التعبير عن التموجات الوجدانية في النص ، كما سنرى.
من البداية ، بُني اللحن ليمهد للوصول إلى المجموعة الأخيرة من الأبيات ، التي تشكل الذروة العاطفية الأكثف ، عند التضرع إلى الله عز وجل ، ليهدي زوجها ، وإن لم يكن ذلك ، فلن يكون لحبه في قلبها من مكان. تمثل هذا في العناصر التالية:
أولاً : سيطر على لحن المجموعة الأخيرة من الأبيات ، التي تشكل المشهد الأخير في الأغنية ، وهجٌ عاطفي و وجداني ، عند التضرع إلى الله عز وجل ، من خلال تركيز اللحن في منطقة الأصوات الحادة ، مع تصاعد لحني إلى ذرىً هي الأحدُّ في صوت سعاد محمد ، وذلك عند كلمة الغفران أولاً ، وهي الأمل الوحيد الباقي ، في إبرازٍ لجنس الحجاز الموسيقي العاطفي ، ثم عند: إذ يهديه ربه ، وصولاً إلى: يا إلهي ، التي تشهد أكثر الأصوات الموسيقية حدة في مجمل اللحن ، وهي بالنتيجة ذروة الوهج العاطفي والوجداني والإيماني في القصيدة!
ثانياً: اعتمد الموجي أن يكون لحن البيت الأخير في كل مجموعة مكرراً ، ويتشكل من تخافض لحني متكرر إلى درجة استقرار مقام الشد عربان ، بأسلوب أداء مختلف كل مرة ، مع توقفات داخلية على مساره ، تختلف أيضاً بين مجموعة ومجموعة. توافق هذا مع ما كان سائداً من تشكيل لحن متكرر في نهاية كل مشهد من مشاهد القصائد العمودية عند تلحينها ، ولكن الموجي وظَّفه هنا تعبيرياً بشكل لافت ، ففيما أتى ذلك اللحن متخافضاً بسلاسة في البيت الأخير من المجموعة الأولى عند : ليت قلبي يطلق اليوم سراحي ، مثلاً ، نجده في ختام المجموعة الأخيرة ، عند : لا كان حبه ، حاسماً كالسيف!
ثالثاً : تبرز المقارنة ( رغم أن المقارنة لاتصح في المفردات ولكنها مقارنة تتركز على الألحان دون المعاني ) بين صيحة : واجريحاه في البداية ، و التوجه إلى الله عند : يا إلهي ، من حيث الوهج العاطفي و الطبقة الموسيقية ، اختلاف الدرجة في التأثير بين الحب والإيمان ، ففيما يتموج لحن الصيحة الأولى حول درجة الصول ، نجد أن لحن التضرع يصل إلى درجة المي بيمول جواب ، أي أعلى بخمس درجات موسيقية ! ( للموسيقيين : ننتبه إلى أن الطبقة الموسيقية المعتمدة في الأغنية مخفضة بدرجة صوتية كاملة ).
رابعاً: جاءت المقدمة الموسيقية على شكل حوارٍ بين آلة الناي والموسيقى ، مرسلٍ لا يحمل أي عنصرٍ من عناصر الصراع المأساوي ، أذ أولاه الموجي وظيفة التمهيد للغناء، ولكن هذا الحوار ، يبدأ بعزف على آلة الناي ، التي يعتمد أسلوب العزف عليها ، على إطلاق العازف الهواء من رئتيه لإصدار الأصوات ، مواكباً لبكاء الشيماء ، ومعبراً عن زفراتها التي تطلقها روحها ، أمام زوجها الجريح ، في تغليب واضح ، من خلال إبراز آلة الناي ، للجانب الروحاني في ذلك الصراع!
بقي أن أشير إلى أن اللحن كان مبدعاً ، في تصاعده أو تخافضه أو تموجه ، وحتى على مستوى المفردة الواحدة ، في التعبير عن المعاني ، كالتصاعد مثلاً عند المناداة : واجريحاه ، يا إلهي ، أو التصاعد المتلاحق: عند كنت لي زادًا وريًا وغرامًا ، وكذلك التخافض المعبر عن الحسرة عند : غير مباحِ ، أو توظيف الإيقاع في شكل عابر في بداية المجموعة الثانية من الأبيات عند : في صبانا كم غفونا حالمين ، للتعبير عن مرحلة هانئة ، مع أن اللحن يعبر في تخافضه عند كلمة : حالمين ، وتوقفه المؤثر عند درجة الفا دييز ، عن إدراك الشيماء أن هذه الفترة قد تكون قد مضت دون رجعة ، ليتلو ذلك إيقاف الإيقاع عند : وانتبهنا . وفي الواقع ، قد يخرج حصر ملامح التعبير جميعها عن إطار هذا المقال!
تجدر الإشارة إلى بعدٍ آخر وهو التعبير بالصورة ، وذلك مثلاً في المشهد الثاني عند : في صبانا كم غفونا حالمين ، حيث تقف الشيماء أمام الكاميرا ، خلف شعلة من النار. كان زوج الشيماء المشرك ، يمارس عبادته ، في سياق الفيلم ، أمام الأصنام والنار ، وهنا صوّر المخرج حسام الدين مصطفى ، النار ، بين الشيماء والكاميرا ، في المشهد الذي تتغنى فيه بالفترة الهانئة مع زوجها ، فيما دمعها يسيل ، في تذكير بأن النار ، هي المانع بينها وبين زوجها!
نعم ، لقد كانت أغنية واجريحاه لسعاد محمد ، ومحمد الموجي ، و عبد الفتاح مصطفى ، تعبيراً مبدعاً عن صراعٍ مأساوي ، بين الحب والإيمان ، انتصر فيه الإيمان.