برنامج العرب والموسيقى والعلاقة بين الموسيقى والألوان
في عام 1987 ، وفي سياق حلقات برنامجي التلفزيوني العرب والموسيقى ، الذي داومت على تقديمه على شاشة التلفزيون العربي السوري لسنوات طويلة ، توقفت عند العلاقة بين الموسيقى والألوان ..
كنت قد اعتمدت في البرنامج العمل في موجات تتغير في كل موسم تلفزيوني ، فكانت موجة الأعلام ، التي ركزت فيها على أعلام الموسيقى في سورية ومنهم الشيخ أبي خليل القباني والشيخ عمر البطش والشيخ بكري كردي والشيخ سعيد فرحات ،.. ثم كانت موجة جديدة من حلقات البرنامج تحت عنوان : الموسيقى وشيء آخر ، بدافع تكويني الهندسي والموسيقي ، عرضت فيها لعناوين كثيرة منها : الموسيقى والطب ، الموسيقى والتاريخ ، الموسيقى والشعر ، الموسيقى والفلسفة ، الموسيقى والعمارة .. ثم جاء دور الموسيقى والتشكيل والألوان!
كان السؤال: هل يمكن أن نحول موجات الموسيقى إلى ألوانٍ وأشكال؟ وهل هي عملية آلية تحول الأصوات الحادة إلى حمراء والباردة إلى زرقاء ؟ أم أنها عملية تتعلق بمدى تأثير الأصوات الموسيقية على الفنان، الذي يترجم عملية التأثير في وجدانه ، إلى ألوانٍ وأشكال ، انطلاقاً من تجربته الذاتية ، و ما اختزنته ذاكرته ، من تجارب وحوادث وذكريات! كان لابد من إجراء تجربة عملية لاستكشاف تلك العلاقة بين الموسيقى والألوان ..
فاتح المدرس
لم أجد أفضل من الصديق فاتح المدرس ، أستاذ الدراسات اللونية في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق ، والتشكيلي المشهور ، الذي جالت لوحاته في أربعة أركان الدنيا ، والكاتب والموسيقي ، لنستكشف هذه العلاقة معاً ، ولكن المعضلة كانت في إقناعه بالإقدام على مغامرة غير مضمونة النتائج!
إليكم كيف استطعت إقناع الفنان التشكيلي الكبير فاتح المدرس بمشاركتي مغامرة تلفزيونية غير مسبوقة!
عرفت فاتح المدرس في سن الصبا في حلب، فهو صديق العائلة ، ثم اقتربت منه أكثر بعد أن أقمت في دمشق ، أستاذاً في كلية الهندسة بجامعة دمشق وزميلاً له في الجامعة.
كان هناك توافق بين علاقتي مع الموسيقى وعلاقته بها .. فأنا ، ورغم أنني كنت مدرس آلة القانون في المعهد الموسيقي بحلب ، فقد كنت أركز في عزفي على الارتجال ، في بعده التعبيري على الغالب ، مبتعداً عن عزف مؤلفات موسيقية لآخرين . وبالمقابل كان فاتح المدرس عازفاً بارعاً على البيانو ، ولكنه يركز في عزفه على الارتجال التعبيري أيضاً ، مع التركيز على مقام موسيقي محدد لا يغيره!
كثيراً ما كنت أتابعه يعزف في مرسمه ، لينتقل إلى متابعة رسم لوحة كان بدأها ، ليعود إلى العزف ، فالرسم ، وكأنما كان عزفه يحرض لديه أشكالاً أو ألواناً يجري تجسيدها على اللوحة ، وكأنما كان لكل شكل أو لون شخصية ما ، يوظفها في بناء فضائه الذي رسمه من البداية!
بالمقابل كان بيننا توافق آخر : عندما أرتجل على القانون ، أقوم مسبقاً برسمٍ ، ولو لحظي ، للفضاء الذي سأدخله ، و البناء الذي سيجسده ، وأترك الباقي للحظة الغالبة ، والمشاعر المتولدة ، آنياً ، من استماعي لما أعزف ، في تفاعل جدلي لا ينتهي.
كان فاتح المدرس يرسم بالطريقة ذاتها : يرسم فضاء لوحته ويحدد هيكلها ، ثم يبدأ بإغنائها بالتشكيلات والألوان ، في دفق إبداعي يتأثر بالمحيط واللحظة ، و بوعيه لما كان قد رسم!.
ولذلك .. عندما قررت أن أخصص حلقة لاستكشاف العلاقة بين الموسيقى والألوان ، في وجهها الآخر ، الذي يمر عبر الإنسان ، هادفاً إلى إجراء تجربة غير مسبوقة تُرتجل فيها الموسيقى ويُرتجل فيها التشكيل واللون .. لم أجد إلا فاتح المدرس ، ليكون شريكي في رحلة الاستكشاف هذه!
طرحت عليه في مرسمه ، أولاً ، الأفكار الشائعة حول أوجه العلاقة بين الموسيقى والألوان ، و ذكّرته بفيلم والت ديزني : فانتازيا ، الذي اعتمد على علاقة آلية بين حدة الصوت وحرارة اللون ، و بين عرض الصوت وبرودة اللون. سألته هل يؤيد ذلك ، أم أنه يرى أن تلك العلاقة تمر عبر الدماغ الإنساني ، وتفاعلاته الذاتية ، والعواطف ومتغيراتها ، التي تختلف بين مستقبل وآخر ، مدركاً مسبقاً أنه سيعارض الأوجه الشائعة للعلاقة ، في حماس ، مراهناً على أنه بذلك ، سيكون قد دخل في جو حوار ، سيجد طريقه لاحقاً إلى الجمهور العام ، عبر الكاميرا.. وأن الموسيقى والرسم لن يكونا غائبين .. وهكذا كان!
فكان أن طرحت عليه تجسيد هذه الفكرة أمام الكاميرا مباشرة ، وبدلاً من أن يعزف ثم يرسم ، كما تعود في مرسمه ، فليستمع إلى ارتجالات مني على القانون ، يسمعها لأول مرة .. ثم يرسم..
كنت أدرك أن هذه مغامرة .. فكأنك تطلب من شاعر أن يرتجل قصيدة أمام الكاميرا ، حسبما يتأثر من سماعه لموسيقى يسمعها لأول مرة ، وبالنسبة لفاتح المدرس ، فلاشك بأنها مغامرة ، فماذا إن لم تحرض الموسيقى عنده أي مشاعر أو صور ، ناهيك عن أنه مطبوع بالتغيير ، وقد اعتاد عندما يرسم ، فإنه يشكل هيكل اللوحة الهندسي أولاً ، ثم يعمل على الألوان ، وتضادها ، ولكنه كثيراً ما يغير الألوان ، إلى أن تستقر اللوحة ، وهذه أيضاً مشكلة إضافية!
ارتجالات موسيقية وترجمة لونية آنية!
لم يتردد فاتح المدرس في القبول ، فهو الجريء الواثق بنفسه ، والواثق بي ، إذ جمعتنا صداقة طويلة.. فجرى نقل مرسمه إلى استوديو التلفزيون العربي السوري ، وبعد تمهيد وحوار استغرقا مشهدين من مشاهد الحلقة ، بدأ المشهد الثالث ، حيث أطلقت ارتجالاً على آلة القانون ، وعلى مقام النهاوند ، لأنه قريب مما يألفه في عزفه هو ، وارتجالاته على آلة البيانو! فاستمعَ .. ثم بدأ يجسد ما حرضته فيه تلك الموسيقى! فكانت اللوحة الأولى ، التي تضمنها ذلك المشهد.
ثم جاء المشهد التالي ، حيث ارتجلت فضاءات لحنية مختلفة على آلة القانون ، قصدتُ منها تصوير معاناة الإنسان اليوم في وحدته أمام تعقيدات عصره ، في ملامح تجسد الحداثة في الموسيقى العربية .. وكان يستمع ، ويتفاعل ، ثم تتحرض عنده الألوان و الأشكال .. إلى أن تشكلت اللوحة الثانية!
في المشهد الأخير ، فاجأني فاتح المدرس ، إذ طلب مني ، على الهواء مباشرة ، تصوير الريف السوري ، كما أراه ، بمساحاته وألوانه ، لكي يقوم هو بتجسيد ما يستقبله مني ..لونياً.. وهكذا كان!
وبالنتيجة ، فقد تشكلت خلال ساعة ، ثلاث لوحات ، بنيت على وقع ثلاثة ارتجالات على القانون ، كان فاتح يستمع خلالها ، فترتسم عبر ريشته ألواناً و أشكالاً ، تضمها لوحات ، يزينها على الهواء.. توقيع!
في الختام، أود أن أقول ، أن الجمهور السوري استقبل تلك الحلقة بحفاوة بالغة ، فيما أعلن أساتذة كلية الفنون أنهم ماكانوا ليقبلوا التجربة ، لو عرضت عليهم ، لأنها مغامرة حقيقية غير مضمونة النتائج.
الحلقة كانت من إخراج المخرج الراحل حكمت الصبان.