أتوقف اليوم عند ذكرى الظهور الأول لفيروز على مسرح! كان ذلك في دمشق في 21 شباط/ فبراير 1952 ، عندما ظهرت فيروز على مسرح سينما دمشق ، بمناسبة حفل للجنة مؤازرة تسلح الجيش السوري ، وغنت قصيدة ذكرى بردى ، من نظم بشارة الخوري وألحان الأخوين رحباني. غنت فيروز في الحفل مع حنان أغنيات أخرى ، كما غنت سعاد محمد قصيدة أبي القاسم الشابي : إذا الشعب يوماً أراد الحياة من ألحان حليم الرومي.لم تكن رحلة تحديد ماورد سهلة بسبب تضارب المعلومات.. وإليكم التفاصيل..
المقالات الموسيقية تجمع على أن أول ظهور لفيروز على مسرح كان في دمشق عام 1957!
كانت المقالات الموسيقية تجمع ، على أن أول ظهور لفيروز على خشبة مسرح ، كان في في حفلة أقيمت في نادي الضباط بدمشق ، بمناسبة عيد الجلاء ، الذي يحل في 17 نيسان / أبريل من كل عام ، وأن تلك الحفلة كانت عام 1957 ( فيما تؤكد أدبيات أخرى أن أول ظهور كان على مسرح مهرجانات بعلبك في صيف عام 1957 ) ، و أنها غنت يومها قصيدة ” عنفوان ” للشاعر السوري الكبير عمر ابو ريشة ، من ألحان الأخوين رحباني . تشير تلك المقالات إلى أن الحفلة ضمت أيضاً طالبات مدرسة دوحة الأدب الدمشقية ، في وصلة من الموشحات ورقص السماح ، كان الشيخ عمر البطش علّمها لطالبات المدرسة ، وتابعها معهم تلاميذه عدنان منيني وبهجت حسان لاحقاً.
استندت نلك المقالات ، على ما أورده الأستاذ جان ألكسان ، في الصفحة 162 من كتابه “الرحبانيون وفيروز” ، إذ ورد فيها ما يلي:
“يروي الحكاية أحمد عسة، الذي كان مديراً لإذاعة دمشق في تلك الأيام، والذي كان له دور كبير في احتضان فن الرحبانيين وإطلاقه من الإذاعة السورية..
يقول أحمد عسه: كانت فيروز آنذاك صوتاً من غير صورة ، كانت تتهيب الظهور أمام الناس، حتى في غرفة مقفلة، وترتجف كورقة عريش في مهب الريح، ولأن موجة الشباب في سورية قد أنست لصوتها، وأحبته، فقد قمنا بمحاولة لإظهارها على المسرح لأول مرة. وكم كانت المحاولة شاقة، فهناك حفلة لطالبات دوحة الأدب “تخصصت في تبني رقص السماح” في نادي الضباط، وكان هناك إصرار على ظهور فيروز، الفتاة الخجول، والواجمة، المترددة، ولكن تغلينا على هذه الصعوبة عندما أفهمناها أنها ستُحاط بمجموعة من بنات العائلات، وستكون جزءاً من كل، لا وحيدة وسط الأضواء، وفي هذا الجو المدرسي، وبالتنورة والبلوزة اللتين أصرت على ارتدائهما في تلك الحفلة، والاستغناء عن أي فستان آخر”.
لم يحدد الأستاذ أحمد عسه ولا لأستاذ جان ألكسان متى كان الحفل .
جاء ذكر الموضوع ذاته ، على لسان السيدة فيروز هذه المرة ، وفي الكتاب ذاته ، في الصفحة 174 ، إذ قالت : ” في عام 1957 ، وقفت للمرة الأولى أمام الجمهور الدمشقي ، وغنيت قصيدة بردى للأخطل الصغير . احتضنني الجمهور السوري وأحبني كما أحببته”.
وتتابع : ” وأذكر أنني دعيت مرة إلى دمشق للغناء برفقة فرقة سيمفونية مؤلفة من خمسين عازفاً، وأنا ما أزال في زي تلميذة، اختاروا لي قصيدة الشاعر عمر أبو ريشة، فتعذّر علي حفظها لضيق الوقت رجوت عاصي والقائمين على الحفلة أن يدعوني أستعين بنص القصيدة، لكنهم رفضوا، تهيبت الموقف.. خشيت أن تخونني الذاكرة.. فطويت القصيدة وأطبقت عليها يدي جيداً، وعندما اعتليت المسرح أخرجت الورقة واستعنت بها”.
يبدو هنا ، أنها تتذكر تلك الحفلة في نادي الضباط ، عندما غنت مع الفرقة السمفونية قصيدة عنفوان ، ولكنها مرة أخرى لا تحدد لها التاريخ ، فيما يبدو أن الناقلين أضافوا عام 1957 في مزج لذكرها للحفلتين ، في واحدة!
في حينه ، وأثناء توثيقي لحياة وفن السيدة فيروز ، حصرت الاحتمال الزمني لهذه الحفلة ، بالفترة التي كان فيها أحمد عسه مديراً للإذاعة ، التي امتدت من 3 تشرين الثاني 1950 إلى 25 شباط 1954 . أي أن الاحتفال المذكور بعيد الجلاء تم في إحدى السنوات 1951 و 1952 و1953 ، ولم يكن ممكناً أن يكون في عام 1957!
إشارات أخرى لم توثق التاريخ!
لاحقاً أشارت مقالات أخرى ، أهمها كان للاستاذ محمود الزيباوي ، إلى حفلة أخرى ، إذ نقلت أن مجلة “الصياد” في عددها الصادر في التاسع عشر من شباط ، كتبت : “كانت المطربة فيروز كوكب الحفلة الفنية التي أقامتها لجنة مؤازرة التسلح في دمشق، فقد استطاعت هذه الفتاة الصغيرة أن تمتلك عواطف الجمهور بأغانيها الخفيفة الراقصة”.
وأن مجلة “الفن” المصرية نشرت في العاشر من آذار مقالة ، على الصفحة المخصصة لأخبار “الشرق”، أي سوريا ولبنان، وهي من توقيع محمد بديع سربيه، محرر هذه الزاوية في السنوات الأولى من الخمسينات ما يلي :
“في دمشق حركة مباركة تقوم بها نخبة من سيدات دمشق الراقيات، وتهدف هذه الحركة إلى جمع تبرعات من المواطنين السوريين لمؤازرة حركة التسلح في الجيش السوري وامداده بالعدة الكافية حتى يظل حصن الوطن الذي يمنع عنه خطر العدو الجاثم على الحدود. وقد أقامت لجنة مؤازرة التسلح مهرجاناً كبيراً في قاعة سينما دمشق في رعاية رئيس الدولة الزعيم فوزي سلو وسعادة العقيد أديب الشيشكلي رئيس الأركان العامة للجيش السوري. وقد دعت اللجنة نخبة من الصحافيين اللبنانيين لحضور هذا المهرجان ووضعت تحت تصرفهم سيارات عدة لنقلهم من بيروت إلى دمشق، كما نزل الصحافيون اللبنانيون في ضيافة الحكومة السورية مدة يومين. أما برنامج الحفلة فقد نظّمه الأستاذ أحمد عسة مدير الإذاعة السورية وتطوع للغناء فيه كبار المطربين اللبنانيين. فغنّى حليم الرومي “ذكرى بردى” للأخطل الصغير، وأنشدت المطربتان فيروز وحنان بعض أغانيهما الجميلة، وغنّت سعاد محمد قصيدة “إذا الشعب”، هذا عدا المقطوعات الممتازة التي قدّمتها الفرقة السمفونية الجديدة للإذاعة السورية”.
وأن مجلة “الفن” نشرت مع تقريرها صورة تمثل فيروز وحنان معاً على مسرح سينما دمشق.
طبعاً خبر مجلة فن فيه أخطاء ، فذكرى بردى ليست لحليم الرومي ، وإنما لفيروز و قد سجلتها في 21 شباط / فبراير 1952 لإذاعة دمشق ، حسب سجلات الإذاعة ، وسنرى أنه اليوم ذاته الذي ظهرت فيه فيروز على المسرح في دمشق .. ولكن المهم أنه أشار أيضاً إلى الفرقة السمفونية السورية التي كانت ذكرتها السيدة فيروز أعلاه.
بحثٌ عن التاريخ المحدد لأول ظهور للسيدة فيروز على مسرح
للتحقق من التاريخ ، لاحظت ورود ذكر الرئيس فوزي سلو في الخبر ، وبالعودة إلى الفترة التي كان فيها رئيساً للوزراء وللدولة ، فقد وجدت أنها كانت بين 3 كانون الثاني/ ديسمبر 1951 و 11 تموز / يوليو 1953 ، وبما أن الخبر في آذار فقد استبعدت عام 1951 وبقي أمامنا عاما 1952 و 1953.
لدى تعميق البحث عن لجنة مؤازرة التسلح ، وجدت الخطاب الذي ألقاه العقيد الشيشكلي في مهرجانها ، ومبين عليه أن التاريخ كان في 21 شباط 1952 ، وكانت الكلمة بعنوان : الشعب والجيش كتلة واحدة.
وهكذا ثبت لدي حينها أن هذه الصورة ملتقطة في 21 شباط فبراير 1952 ، وهي تجسد الظهور الأول لفيروز وحنان على المسرح ، وثبت أنها غنت في هذه الحفلة أيضاً بمفردها ، حيث أدت قصيدة ذكرى بردى من نظم بشارة الخوري وألحان الأخوين رحباني.
بالنسبة لحفلة نادي الضباط المذكورة أعلاه ، فإنني أرجح أن تكون أيضاً في عام 1952 ، ولاحقة لحفل سينما دمشق ، ذلك لأنها سجلت قصيدة عنفوان ، التي غنتها في ذلك الحفل ، في 30 نيسان / أبريل 1952 لصالح إذاعة دمشق ، وفق سجلات الإذاعة ، وبالتالي يبدو أنها غنتها في حفل نادي الضباط ، أولاً ، في 17 نيسان / أبريل 1952 ، بمناسبة عيد الجلاء ، ولم تكن قد حفظتها تماماً ، كما ورد أعلاه ، ولذلك أحست بالرهبة ، ثم سجلتها للإذاعة في 30 نيسان.
وهكذا ثبت لدي ، أن أول ظهور للسيدة فيروز على المسرح ، كان في دمشق في يوم 21 شباط / فبراير 1952.
ملاحظة : اعتمدت في تحديد تاريخ الحفل على خطاب الشيشكلي الذي أتى في ٢١ شباط وهو يوم خميس ، أي أنه يوم مناسب لإقامة الحفلات . ولكن مؤازرة التسلح كانت لمدة أسبوع . وبالنظر إلى أن خبر مجلة الصياد جاء في 19 شباط ، ما يعني أن الحفل أتى قبل تاريخ الخطاب ، فهناك احتمالان: أن يكون الحفل في افتتاح الأسبوع ، أي في ١٤ شباط ، وهو يوم خميس ، وعندها يكون هذا هو تاريخ أول ظهور للسيدة فيروز على مسرح ، و أن يكون خطاب الشيشكلي قد أتى في ختام الأسبوع ، وهنا تتوافق هذه النتيجة مع تاريخ عدد مجلة الصياد ، أو أن يكون هناك خطأ في تاريخ العدد ، كما ورد في مقال الأستاذ محمود زيباوي.
تحديث بعد النشر
وردت عدة ملاحظات على صفحتي على فيس بوك تبين أن فيروز غنَّت : جوارحي ، بينما كتبتُ في النص : جوانحي .. وتسأل أيهما أصح..
إجابتي كانت:
جوانحي هي في أصل القصيدة ، أي الأضلاع القصيرة في الإنسان مما يلي الصدر ، والمعنى هنا لغوياً أعمق من حيث قرب الجوانح للقلب ، الذي يأتي تالياً ( الفؤاد) في نص القصيدة ، أي أن حُب الشام قص الجوانح ووصل إلى القلب.
أما الجوارح فهي أعضاء الإنسان التي يكتسب منها كاليدين ، وقصها لا يفيد .. من المحتمل أن الأخوين أبدلا الكلمة إلى جوارحي لكي تكون أقرب للفهم من قبل المستمعين ، مستندَين إلى أن الفؤاد ، الذي يأتي تالياً في النص هو من أعضاء الإنسان أيضاً ففضلا : جوارحي.. ولكن المعنى الأصلي أعمق!
ورد أيضاً تعليق آخر بأن الشاعر حين قال جوانحي مقصوصة فيها فقد قصد تشبيه نفسه بالطير الغريب الذي تقص جوانحه لكي لايطير ويألف المنزل الجديد ، وحين تنبت من جديد لايغادرها ولو كان له فراخ او انثى في منزله القديم.. و أن هذه صوره تشبيهيه جميله ومفهومه عند العامه..
إجابتي كانت: جمع جناح هو أجنح وأجنحة وليس جوانح ، ولذا الصورة المقترحة من قبلك ليست محتملة.. ولاشك في أن شاعراً بمكانة بشارة الخوري يعرف ذلك!