في 31 مايو / أيار 194 ، افتتحت دار الإذاعة المصرية ، كأول إذاعة عربية حكومية . كان من أهم إسهاماتها الأساسية أنها اعتمدت اللغة العربية الفصحى ، ما أسهم في انتشار متابعة الإذاعة المصرية في العالم العربي ، و في اعتبارها أول لبنة في توحيد العرب ، كما لعبت دوراً توجيهياً وإرشادياً ، أسهم في تشكيل الرأي العام المصري والعربي ، من خلال تبنيها للقضايا العربية.
في سياق آخر ، أدت الإذاعة ، إلى جانب دورها الفكري والثقافي والتنويري ، دوراً هاماً في تطوير الموسيقى العربية ، من حيث الشكل والمضمون ، و كان لافتتاحها الأثر الأكبر في فتح أبواب الشهرة ، أمام كبارها ، كما حرضت التدوين ، وإن كانت أسهمت ، إلى جانب السينما ، في انحسار المسرح الغنائي.
في المقال التالي أتوقف عند الإذاعة المصرية ، بحسبانها أحد عوامل تشكيل النهضة الموسيقية العربية في القرن العشرين.
عرفت مصر لأول مرة الإرسال بواسطة الأجهزة اللاسلكية عام 1923 ، من خلال عدة جهات خاصة ، تبث بشكل متزامن في القاهرة، فيما سمي الإذاعات الأهلية. كانت الإذاعات الأهلية ضعيفة البث في البداية، لا يتجاوز بثها مدينتي القاهرة الإسكندرية ، وكانت تعتمد على الإعلانات . تطورت الإذاعات الأهلية بشكل نسبي في عام 1932 ، إلى أن افتتحت الإذاعة الرسمية في القاهرة ، في الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم الخميس 31 أيار/ مايو 1934 ، حيث ارتفع صوت أحمد سالم ، أول مذيع مصري قائلا: ” هنا القاهرة الإذاعة اللاسلكية للحكومة ” .
الافتتاح
تضمن الافتتاح ، في بثٍ مباشر على الهواء ، تلاوةً من القرآن الكريم ، بصوت المقرئ الشيخ محمد رفعت ، ثم كلمتي وزير المواصلات ، ورئيس اللجنة العليا للبرامج ، ثم قطعة موسيقية ، فمونولوج فكاهي ، ثم أغنيات لأم كلثوم ، ومحمد عبد الوهاب ، وصالح عبد الحي ، وفتحية أحمد ، كما ألقى الشاعر علي الجارم قصيدة. غنت أم كلثوم في الافتتاح ، مونولوج ” ياللي جفاك المنام ” ، من ألحان محمد القصبجي و كلمات أحمد رامي.
إسهامات الإذاعة المصرية
كان من أهم إسهامات الإذاعة المصرية ، أنها اعتمدت اللغة العربية الفصحى ، في الأخبار والبرامج الحوارية والثقافية ، مقابل اعتماد الإذاعات الأهلية المصرية للهجة العامية ، ما أسهم في انتشار متابعة الإذاعة المصرية في العالم العربي ، و في اعتبارها أول لبنة في توحيد العرب ، إذ لم يكن بقدرة سلطات الانتداب الفرنسي والبريطاني ممانعتها ، حيث تجاوز بثها الحدود من البداية ، ليصل إلى لبنان وسورية وفلسطين والأردن ، وحتى أجزاء من ليبيا ، من خلال محطة إرسال بقوة 20 كيلو واط ، فيما كان إرسال الإذاعات الأهلية المصرية لا يتجاوز نصف كيلو واط. أسهم انتشار أجهزة الراديو في بيوت المواطنين في تلك البلدان ، و كذلك تركيز المقاهي على اقتنائها ، لجذب الزبائن إليها ، في تكثيف متابعة الإذاعة المصرية ، كما أسهم في ذلك أيضاً ، دعوة الإذاعة المصرية للفنانين العرب لزيارة القاهرة ، لتسجيل الأسطوانات ، و لبث أعمالهم من خلالها ، عبر أثير الإذاعة ، أو استحضارها للأسطوانات ، من إنتاج بيضافون في لبنان مثلاً ، لبثها أيضاً . ثبتت الإذاعة المصرية بذلك مركز القاهرة ، كمركز أساسي لبث الموسيقى والغناء في العالم العربي ، في إطار شبكة موسيقى المدن العربية.
لعبت الإذاعة المصرية دوراً توجيهياً وإرشادياً ، أسهم في تشكيل الرأي العام المصري والعربي ، بتبنيها للقضايا العربية ، كالدعوة لتكوين جامعة الدول العربية ، وبإذاعتها لحوارات كبار مفكري مصر ، باللغة العربية ، في وقت تصارعت فيه الرؤى الفكرية فيها ، بين مسارات فكرية وإيديولوجية متنافسة ، كان من أهمها : الفكر الديني ، و المصري القديم ، و العربي ، والعلماني ، و الشيوعي .. مقابل التوجه للغرب الليبرالي.
في الموسيقى العربية
أدت الإذاعة ، إلى جانب دورها الفكري والثقافي والتنويري ، دوراً هاماً في تطوير الموسيقى العربية من حيث الشكل والمضمون ، مبتعدة عما اتصفت به الإذاعات الأهلية من الابتذال ، فقدمت عددا من المطربين ، كأم كلثوم ، وعبد الوهاب ، وفريد الأطرش ، وأسمهان ، كما قدمت البرامج الكلاسيكية الغربية ، و قامت بنقل مباشر للحفلات الغنائية من خارج دار الإذاعة المصرية ، وأسست لما سمي البرامج الغنائية ، وهي تمثيليات تتضمن أغانٍ معبرة ، كبديل مجاني يصل إلى البيوت دون مقابل ، عن المسرح الغنائي والفيلم الغنائي .
كان لافتتاح الإذاعة المصرية ، الأثر الأكبر في فتح أبواب الشهرة ، أمام رياض السنباطي وفريد الأطرش وأسمهان وآخرين، كما أدرك محمد عبد الوهاب أهميتها، بعد ابتعاده عن الغناء على المسرح، فقدم أغانٍ تلاءمت معها ، مثل قصائد ” الجندول ” و ” الكرنك ” و ” كليوبترة ” ، مستفيداً من تنافس الإذاعات على جذب المستمعين ، خلال الحرب العالمية الثانية ، وهو ما سمي اصطلاحاً ” حرب الإذاعات ” ، ومن قدرة الإذاعة على توسيع انتشار الأغنية الإذاعية التصويرية الطويلة ، التي تسمح بتنويع الأجواء ، ضمن العمل الغنائي الواحد، وهو ما لم تكن تتيحه السينما، بينما لم تتأقلم أم كلثوم مع الإذاعة ، لأنها لم تكن تشعر بالاندماج أثناء الغناء فيها بدون جمهور ، مع أن أحمد رامي كان يحضر في الأستوديو، ويشجعها بالإيماء ، فتم اللجوء إلى نقل حفلاتها مباشرة ، حيث تم نقل أول حفل لها مباشرة على الهواء في 27 كانون الثاني / يناير عام 1935.
أسهمت الإذاعة المصرية في دعم عودة أسمهان للفن في عام 1938 ، من خلال إيمان مدحت عاصم ، رئيس الدائرة الموسيقية في الإذاعة بموهبتها ، إذ قدم لها ” يا حبيبي تعال الحقني ” ثم تحفته ” دخلت مرة في جنينة ” التي كرستها في قمة منافسة لأم كلثوم. بالمقابل ، شهدت الإذاعة تنافساً كبيراً بين محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ، أدى إلى طلب فريد الأطرش مساواته في الأجر مع عبد الوهاب ، لدى تسجيله أغنية حبيب العمر منتصف الأربعينيات. عندما رفضت الإذاعة ، نقل فريد تسجيلها إلى إذاعة الشرق الأدنى ، المنافس الأول للإذاعة المصرية ، والتي كانت تبث من القدس ، فشاعت الأغنية وانتشرت ، ما شجعه على الإقدام على إنتاج فيلم سينمائي باسم الأغنية ذاتها ، فتقاطر الموزعون من الأقطار العربية لدعم الفيلم وحجز نسخهم. حقق الفيلم نجاحاً كبيراً ، وكان بالتالي فاتحة مسار إنتاج فريد لأفلامه ، ما أسهم في تكريس نجوميته السينمائية.
حرضت الإذاعة المصرية والإذاعات الأخرى التدوين ، لضرورته أثناء بث الأغاني على الهواء ، ثم لتسجيلها بشكل يومي، ولكنها أسهمت ، إلى جانب السينما، في انحسار المسرح الغنائي.
في الخمسينات والستينات
شهدت الإذاعة المصرية بعد ثورة 23 تموز / يوليو 1952 تطوراً كبيراً ، حيث بدأت في البث عبر الموجه القصيرة ، بقوة إرسال وصلت إلى 140 كيلو وات ، ما وفَّر لها انتشاراً أوسع وتأثيراً أكبر ، فيما كان لافتتاح إذاعة صوت العرب في 4 تموز / يوليو 1953 ، التي وصلت ساعات بثها مع الوقت إلى اثنتين وعشرين ساعة ، و تزويدها بأجهزة إرسال قوية ، كانت كافية لجعلها مسموعة في أماكن كثيرة من العالم العربي ، الأثر الأكبر في تكريس أهمية الإذاعة المصرية لمدة طويلة ، إلى جانب إذاعات أخرى ، كانت برزت بقوة ، كإذاعة القدس ثم إذاعة دمشق ، ولهذا حديث آخر!