في مقال نشرتُه سابقاً ، تحدثت عن قصيدة يا نسيم الدجى ، التي غنتها السيدة فيروز ، في حفل مبايعة الأخطل الصغير بشارة الخوري ، أميراً للشعراء . كنت تساءلت في سياق المقال ، عن الأسباب التي أدت إلى مبايعة أميرين للشعر العربي ، ممن تداول المغنون قصادئهم؟ وتوصلت حينها إلى نتيجة ، بأن هذا لم يكن واقع حال أحمد شوقي ، فيما رجحتُ أن الغناء ، كان أحد أسباب مبايعة بشارة الخوري ( الأخطل الصغير ).
اليوم أتوقف عند سؤال ثانٍ يتعلق بشاعرنا الكبير: من كان أول من لحن و تغنى بأبيات من شعر بشارة الخوري من المغنين؟ الشائع أنه كان الأستاذ محمد عبد الوهاب ، في القصيدة الشهيرة ” الهوى والشباب ” عام 1931.
وفي الواقع أن الأمر ليس كذلك ..فهناك قصيدة شهيرة للأخطل ، وهي قصيدة : عِش أنت إني متُّ بعدكْ ، والتي اشتهرت عندما لحنها وغناها الأستاذ فريد الأطرش عام 1973 ، في سياق فيلم زمان يا حب ، فيما كان سبق أن لحنها وغناها ، مطربٌ سوري شهير في محيطه ، هو أحمد الفقش ، ثم سجلها لصالح شركة أسطوانات أوديون في القاهرة ، عام 1928! ويمكنني حالياً أن أقول بأنه لا يوجد لديَّ ما ينفي ، أن تكون هذه القصيدة ، هي أول قصيدة ، تُلحَّن وتغنى من شعر الأخطل الصغير ، وأن أول من غنى له بالنتيجة ، هو أحمد الفقش!
سنرى بعد قليل ، أن المطرب أحمد الفقش ، لحَّن الأغنية على الأسلوب الكلاسيكي ، ضمن المسار الذي اعتمده عبده الحمولي ، ثم أبو العلا محمد ، في نهايات القرن التاسع عشر ، وبدايات القرن العشرين. ومن المثير تماماً ، أن نقارن هذا اللحن الكلاسيكي ، وهو بالنتيجة لقصيدة رومنسية ، مع لحن الأخوين رحباني ، لقصيدة يا نسيم الدجى ، الذي غنته فيروز ، بمرافقة البيانو ، وتحدثت عنه قبل أيام ، لنرى كم يمكن أن تختلف الأجواء العامة للقصيدة ، عندما يتداولها ملحنون ، من مشارب مختلفة ، فتأتي الألحان في تضاد كامل. ألاحظ أيضاً أن لحن فريد الأطرش للقصيدة ذاتها ، جاء في الإطار الكلاسيكي المطور.
لإعداد ملف هذه القصيدة ، كان هناك أولاً بحثٌ عن التاريخ الذي ولدت فيه. لم يكن الأمر سهلاً ، فأول ديوان للشاعر بشارة الخوري ، وهو ديوان الهوى والشباب ، ( باسم القصيدة التي غنّاها عبد الوهاب!) ، نُشر عام 1953 ، أي بعد تسجيل أحمد الفقش للقصيدة ، بخمسة وعشرين عاماً.
بعد بحث طويل ، وجدت في إحدى الدراسات عن الشاعر بشارة الخوري ، أن القصيدة وردت لأول مرة ، في عدد من أعداد مجلة ، كانت تدعى ” مجلة الأحرار المصورة ” ، موقعة بالحرفين : أ. ص. أي الأخطل الصغير . وسرعان ما دخلت في بحث ٍ جديد عن تاريخ هذه المجلة ، ومتى بدأت بالصدور . بعد التدقيق ، وجدتُ أنها كانت مجلة أسبوعية ، أصدرها جبران تويني ( الجد ) ، في بيروت ، وقد صدر منها خمسون عدداً فقط ، بين عامي 1926 و 1927 ، إذ أوقفتها سلطات الانتداب الفرنسية ، ليجد مطربنا القصيدة بين ثناياها ، فتجذب انتباهه ، ويلحنها ويغنيها ، ثم يسجلها في القاهرة عام 1928!
أحمد الفقش
ولد أحمد الفقش في حلب عام 1900. درس على شيوخ الطرب في حلب في تلك الفترة ، ومنهم الشيخ أحمد العقيلي . اشتهر في حلب ، ثم ذاع صيته ، فوصل إلى لبنان والقاهرة. دعته شركة أسطوانات أوديون ، لتسجيل بعض الأسطوانات في القاهرة ، كانت منها هذه القصيدة ، وأعمال أخرى ، سأتوقف عندها في مناسبات قادمة .
عمل أحمد الفقش في إذاعة حلب ، التي كان أسسها والدي الدكتور فؤاد رجائي آغا القلعة عام 1947 ، معلماً لأداء الموشحات والقدود الحلبية والموال ، إذ كان من المبدعين في أداء الموّال ، متميزاً على أقرانه من كبار مطربي حلب ، وقد كان لي فرص كثيرة للاستماع إليه مباشرة. توفي أحمد الفقش عام 1973.
نص الأغنية:
11- عش أنت إنّي متُّ بعدك وأطل الى ما شئت بُعدك ( جاءت : صدك ، في نسخة فريد الأطرش )
2- كانت بقايا للغرام بمهجتي فختمت بَعدك
3- أنقى من الفجر الضحوك وقد أعرتَ الفجر خدّك
4- وألذّ من كأس النديم وقد أبحت الكأس شهدك
5- يا من أساء بي الظنون ثلمتني وثلمت حدّك
6- ما كان ضرّك لو عدلت أما رأت عيناك قدّك
7- أغضاضة يا روض إن أنا شاقني فشممت وردك
8- وملامة يا قطر إن أنا راقني فأممت وردك
99- وحياة عينك وهي عندي مثلما القرآن ( جاءت : الايمان عند فريد الأطرش ) عندك
10- ما قلب أمك ان تفارقها ولم تبلغ أشدّك
11- فهوت عليك بصدرها يوم الفراق لتستردّك
12- بأشد من خفقان قلبي يوم قيل خفرت عهدك
اللحن والأداء
اللحن كلاسيكي بامتياز ، يبدأ بدولاب على مقام الراست على درجة الدو . والدولاب معزوفة موسيقية متكررة اللحن ، يتم توظيفها ، مع تغيير المقام ، حسب الحاجة ، للتمهيد للغناء ، دون الحاجة لتلحين معزوفات خاصة كل مرة . كان هذا أسلوباً شائعاً ، قبل أن يبدأ الملحنون ، بوضع مقدمات موسيقية خاصة لكل أغنية.
اعتمد أحمد الفقش أسلوب تلحين القصائد الكلاسيكية ، حيث يتم الارتقاء تدريجياً باللحن ، حتى الوصول إلى ذروة لحنية ، قبل اختتامه ، مركزاً على تلوين المقامات الموسيقية ، بحيث يكون لكل بيت لحنه الخاص ، ومقامه الموسيقي الخاص .
وهكذا ، وفي إيجاز سريع قدر الإمكان ، بقصد عدم إغراق غير المختصين بتفاصيل مقامية موسيقية ، جاء لحن البيت الأول على المقام الأساسي ، وهو الراست على درجة الدو ( الراست ) ، ليأتي البيت الثاني ، على مقام البيات على الري ( الدوكاه ) ، و البيت الثالث على مقام الحجاز على الري ( دوكاه ) أيضاً ، مع تغيير المقام ، و البيت الرابع على مقام النهاوند على درجة الصول ( النوا ) ، و البيت الخامس على مقام البيات على درجة اللا ( الحسيني ) ، والبيت السادس على مقام الحجاز كار على درجة الري ( الدوكاه).
في البيتين السابع والثامن ، ينتقل إلى مقام الشد عربان على الصول ( النوا ) ، غناءاً ، فيما تستمر الموسيقى على مقام الحجاز على الري ( الدوكاه ) ، ليعود ويلون أداءه بين المقامين ، و لينتقل بعدها في البيت التاسع ، عند : وحياة عينك ، إلى مقام البيات على درجة الري مجدداً ، مع إبراز أداء عاطفي خاص ، في هذه المرحلة من القصيدة ، عند ذكر الأم ، لينتقل بعدها ، و في نهاية البيت العاشر ، إلى مقام الماهور ( الراست من الجواب ) ، مركزاً عليه ، في البيت الحادي عشر ، عند : فهوت عليك بصدرها ، لينتقل فيه أيضاً إلى مقام الصبا على اللا ( الحسيني ) ، عند تكرار فهوت عليك بصدرها ، ونلاحظ الهبوط اللحني لديوان كامل ، للتعبير عن : فهوت ، وصولاً إلى اختتام القصيدة ، في البيت الثاني عشر ، على مقام الراست وهو المقام الأساسي للحن.
لحن كلاسيكي بامتياز ، لقصيدة رومنسية بامتياز! جسدت فترة انتقالية بين عصرين ، عصر كان يجهد ليبقى ، وعصر آخر كان يجهد ليسيطر، مستعيناً بتقانات العصر الجديدة ، قبل أن تغلبهما تلك التقانات ، ليضيعا معاً!
ملاحظة : كالعادة وضعت صورة للتسجيل الصوتي، تجسد مشاهد من مدينة حلب ، حيث ولد المطرب أحمد الفقش وعاش ، وتعود المشاهد إلى العشرينات من القرن الماضي ، وهي الفترة التي شهدت تسجيل هذه الأغنية.